يوميات مواطن..!
الحاجز رقم 18
تحقق الحلم بعد غياب طويل، وأصبح المهندس محمود قادراً على الذهاب إلى دير الزور وتحقيق رغبة والدته في رؤيته هو وأطفاله، تتحدث دوماً عن خشيتها من أن تموت قبل أن تراهم. لا موعد للموت في هذه الأيام، لا يفرق بين صغير وكبير بعد أن أصبح القصف والقنص والجوع العنوان الأكبر، وتعددت وسائل الموت وتجاوزت أشكاله المألوف، لدرجة وصلت بالبعض إلى الاستغراب عندما يسمع خبر موت أحدهم «طبيعياً» مرضاَ أو كبراً في السن.
هرب محمود بأطفاله إلى دمشق بعد أن أصيبت الصغيرة بشظية في رأسها من قذيفةٍ «معروفة» الهوية.. تاركاً والدته التي رفضت مغادرة بيتها إلاّ إلى القبر.. على أن يعود إليها بعد معالجة صغيرته المصابة، لكنه لم يستطع الوفاء بوعده، بعد أن علم أن اسمه بات على حواجز الطرفين، ولكنه قرر العودة أخيراً وليكن ما يكون.. وعندما وصل اتصل بأصدقائه فرحاً: «لقد نفذنا..!!».
أمضت العائلة اسبوعاً في حضن الأم الدافئ، وحان وقت العودة، ركبوا الباص في السادسة صباحاً بعد أن أنبأهم سائق الباص بضرورة سلوك طريق مغاير لأنّ الطريق الرئيسي مقطوع بسبب الاشتباكات، ومع ذلك لم يكن الطريق خالياً من الحواجز كالعادة، فكان الأول من حصة «داعش» وعند انتهاء التفتيش عن العسكريين والمؤيدين أخرج «الداعشي» ورقة أعطاها للمرافق «سأراها معك عند عودتك.» هز البندقية مهدداً أمام وجهه. فرد معاون السائق مذعوراً: «حاضر يا شيخ» ووضعها تحت سجادة الصلاة الموجودة في مقدمة الباص، وتابعوا السير، وتتالت الحواجز.. هذا للنصرة.. وهذا للجيش الحر.. حتى وصولهم إلى تدمر، حيث بدأ تتالي حواجز «الرسمية».. إلى أن وصلوا إلى الحاجز الأخير الذي يحمل الرقم 18، و كان الركاب يكثرون الدعاء قبل كل حاجز ويتنفسون الصعداء بعده ، وفي كل الحواجز كان السائق يدفع «المعلوم» مؤكداً للركاب أن ذلك كان المبرر لرفع الأجور إلى 1800 ليرة، بعد أن كانت 350 فقط..
لكن أحداً لم يكن قادراً على رد شر الحاجز 18، فقد حمل معه ما كانوا يخافون منه و ما لم يتوقعونه.. فبعد التفتيش والتدقيق في ملامح الجميع نزل العنصر فارتطمت يده بسجادة الصلاة، ووقعت وسقطت معها تلك الورقة البيضاء.. فالتقطها بسرعة وبدأ بقراءتها بصوتٍ عالٍ، وإذ به يحمل المنشور المفروض على المعاون ويصرخ قائلاً: «ما هذا ولك؟؟» صرخ «العنصر» في وجه المعاون، فرد الأخير متلعثماُ: «والله أعطاني إياه هذا المسلح من داعش وهددني أنه سيراه معي عند عودتنا».. اسأل السائق «.. اسأل الركاب».. فصرخ السائق على الفور: «لم أره من قبل يا سيدي..».
تلفت الركاب ونقلوا أنظارهم فيما بينهم لتستقر في الأرض.. لم يتجرأ أحد منهم على الوقوف إلى جانبه.. أنزلوه وبدأت الحفلة والصراخ يتعالى من السائق ومعاونه، رغم محاولات امرأة عجوز توضيح الموقف، وانتهى الأمر بوضع السائق والمرافق «مطمشين» في سيارة.. واضطر الركاب إلى ركوب كل سيارة وباصٍ عابر للوصول إلى دمشق بعد أن تم الحجز على الباص، وفي المساء اتصل بي صديقي محمود وهو يقول بصوتٍ خافت: لقد نفذنا مرةً أخرى..