«شيرازي» عباس كيارستمي.. رجل حقيقي ومعاصر
لا يزال الشاعر الفارسي الكبير حافظ شيرازي يثير زوابع كثيرين، إن جازت التسمية، عبر شعره، الذي يُعدّ لغاية اليوم قمة من قمم الأدب في العالم، لا الأدب الفارسي فقط. على سبيل المثال، قام الشاعر اللبناني محمد علي شمس الدين، منذ سنوات قليلة «بترجمة» أشعاره إلى العربية، وفي الحقيقة، يبدو ما فعله شمس الدين أكثر من عملية ترجمة بحتة، إذ نحا إلى كتابة نص بالعربية، يستلهم شعر الشيرازي وفكره، ليقدم نصاً متكاملاً بالعربية، يحمل توقيع الشاعر اللبناني بكل تفاصيله.
تأثير شيرازي وحضوره دفعا عديدين أيضاً إلى العودة إليه لاستلهام هذه التركة الشعرية الكبيرة، من هؤلاء المخرج الإيراني الكبير عباس كيارستمي، الذي اختار منذ سنوات عدداً من قصائده الغزلية ليعيد كتابتها على طريقته الخاصة. الكتاب الذي أثار في إيران يوم صدوره نقاشات عدة، نجده اليوم بين أيدي القراء العرب، بعد أن ترجمه عن الفارسية ماهر جمو (وهي ترجمة جيدة، تعرف كيف تقبض على روح النص، على الأقل وفق ما نقرأه بالعربية) وقد صدر حديثاً عن «المدى».
كيارستمي مخرج يحضر بقوة في الساحة السينمائية العالمية وهو أيضاً فنان فوتوغرافي وكاتب، وليس بعيداً عن الشعر مطلقاً إذ له مجموعات شعرية عدة، وعلينا أن لا ننسى أن أفلامه تغرف كثيراً من الشعر، بالأحرى هو ينتمي منذ الستينيات إلى تيار «الموجة المختلفة»، أي تلك الموجة السينمائية الإيرانية التي وجدت أن عليها استبدال الحوار بحوارات شاعرية (أحد مرتكزات العمل، لا كله بالطبع). أضف إلى ذلك، أن فيلمين من أفلامه، على سبيل المثال لا الحصر، يرتكزان في انطلاقهما على قصائد تنتمي إلى الشعر الإيراني الحديث: «أين منزل الصديق؟» (انطلاقاً من قصيدة سهراب سيبهري التي تحمل العنوان عينه) و«ستحملنا الريح» (انطلاقاً من قصيدة لفروغ فرخزاد). من دون أن ننسى بالطبع قصة «شيرين وخسرو» (التي ذكرها الفردوسي في الشاهنامة ثم نظمها نظامي الكنجوي وخسرو الدهلوي) التي حوّلها إلى فيلم رائع ومتميّز. إذا لا شيء يخبرنا أن المخرج «يتعدّى على الشعر»، بل إنه يقيم فيه.
الكتاب الذي بين أيدينا، يحمل العنوان التالي «غزليات حافظ شيرازي برواية عباس كيارستمي». من العنوان علينا أن ننتبه إلى هذه اللعبة الشعرية التي ينجح فيها المخرج الإيراني: لسنا أمام شيرازي كما كان عليه، بل «برواية كيارستمي» أي ثمة مساحة كبيرة لإعادة قراءة الشاعر الفارسي الكبير وفق مفهوم مختلف. وهذا ما يفعله عباس كيارستمي، إذ «ينزع» عن سلفه هذه «الهالة» بكونه رجلاً «غير عادي» ليصنع منه رجلاً «من لحم ودم» أي أكثر بشرية، ليختار قصائد حب وغزل، لكنه يعيد كتابتها على شكل مقاطع متفرقة، تشبه قصائد الهايكو.
هذا الأسلوب الذي يقترب من الهايكو، هو المفضل عند كيارستمي، إذ نجد أن غالبية شعره (الذي قرأناه) يميل إلى هذه اللقطة المكثفة، ليشكل عبر تتابع الصور التي يعطيها صورة متكاملة في نهاية المطاف. بمعنى آخر لسنا بعيدين عن مفهوم السينما، بمعنى أن اللقطات المتعاقبة هي التي تشكل اللقطة.
هي قراءة خاصة من دون شك. قد تثير استغراب كثيرين، لكنها تثير إعجاب آخرين أيضاً. أي أنها تنزع كل «هذا التقديس» لتضع أمامنا شخصاً يبدو غزله أكثر «عصرنة» و«حداثة» (إذا جاز القول)، مع العلم أنها قراءة لا تنفي ذلك الميراث الكبير، بل ربما تجعله أكثر حياة في عصرنا الراهن.
قراءة كيارستمي لحافظ شيرازي، هي أكثر من مجرد تأويل. إنها إعادة تفكير حقيقي في شعر لا يزال حاضراً بيننا. كتاب يستحق بالفعل أكثر من قراءة.