حرب السرافيس..
تحت جسر الرئيس وعلى حافة الرصيف تحديداً, أقضي وقتي مستمتعاً بقراءة الكتب والقصص، شاغلاً نفسي إلى أن يأتي السرفيس أو الباص, هي عادة أحببتها فتعلقت بذلك المكان كثيراً.. أشتاق إليه حتى في يوم عطلتي!
فقد اعتدت على المطالعة وكتابة الشعر على الرصيف منذ أن بدأت أزمة المرور في دمشق.
على كل حال لا تختلف أجواء الإثارة في المكان عن أي قصة مثيرة تسكن صفحات الكتب الملقاة تحت الجسر، لحظات طويلة من الترقب والتشويق تنتهي بوصول السرفيس مسرعاً كصياد يطبق على فريسته، يفتح الباب بقسوة ويبدأ الركض والشجار، ويحتدم الصراع حتى يمتلأ السرفيس ويتابع شق طريقه في المجهول.
أنفض عني تلك الخيالات بسرعة، ها هي تلك الفتاة الجميلة تتفقد الوقت من هاتفها المحمول، «ياللهول.. كم الساعة الآن؟!» أخرج هاتفي من جيبي «أف لقد قاربت العاشرة.. سأخسر عملي اليوم». وبالفعل كانت الرسائل الثلاث المنسية في جهازي تتحدث عن الموضوع ذاته، فقد أكسبتني عادة القراءة تحت الجسر هذه عداوة شديدة مع مديري في العمل وها هي المرة الخامسة بعد المائة التي أتأخر فيها!
«هاهو ذا!! ».. يطل باص (ميدان- شيخ) من فوق الجسر ليسرق الأبصار، إنه حلم الناظرين من الأسفل، يطير في الهواء، فيظهر الناس وهم ينزلون من الباص على عجل وكأنهم سيلقون بأنفسهم من على الجسر، «إنها قصة خيالية وليست واحدة من قصص التشويق والإثارة» أقول لنفسي، لكني سرعان ما انتفض بنزق «إنه الواقع الآن، أخرج رأسك من تلك الكتب، قد يكلفك ذلك الإدمان عملك!».
رنت كلمات التقريع الأخيرة من مديري في رأسي, سمعتها بوضوح رغم ضوضاء السيارات وصراخ الناس، أغرقت ناظري في بياض السرفيس-الحلم، «كل يومٍ أنال نصيبي من التقريع بسبب تأخيري عن الدوام, علي اليوم أن أبذل جهداً أكبر»، بدأت أركض مع جموع الراكضين، لأحجز مكاناً في السرفيس بدلاً من الجلوس على حافة الرصيف, أعلم أن حجمي الصغير يخذلني دائماً وأبقى في الخارج, لكن اليوم مختلف.
أخذ الرجال وضعية الاستعداد وهم يحدقون في عيون بعضهم بغضب، بدأ الجميع بتفقد أغراضه بعد أن أدناها منه بحركة خاطفة، الكل يحترق تحت الشمس, والسرفيس يرقص يميناً وشمالاً.. ويكاد السائق يدهس أكوام البشر المترامية على الأطراف دون أن يكترث, السرفيس يقترب، واليوم مختلف، لا يهمني، سوف أدخل المعركة فقد أخسر عملي..
دفنت الكتاب تحت ثيابي وأطلقت ليدي وقدميي العنان، نعم لقد وصل، وبدأت المعركة, كنت أول الواصلين إلى الباب, «أوه الباب مقفل», وقع الكتاب تحت السرفيس واستقر تحت العجلة الأمامية, ساد الصمت وأصبح سيد الموقف, ردح صوت السائق الأجش من الداخل «ما دام هيك ماني طالع»، أطفأت تلك الكلمات لهيب «حرب السرافيس» ليعود الجميع إلى الظل شاتمين لاعنين، تحرك السرفيس وظهرت الرواية وقد استحالت أوراقاً تحت العجلات.
«اليوم مختلف»، ضحكت من قلبي، لا يختلف هذا اليوم بشيء عن غيره، يوم آخر من معارك «حرب السرافيس»، أعجبني العنوان، قد يصلح عنواناً لرواية مميزة، لكنها هذه المرة ستكون رواية حزينة..