كسر الجدار.. واجترار الطرق القديمة
الهدف الحقيقي للفن هو تحريض الناس على الإحساس أو التفكير، هذه كلمات «فان غوخ» التي رد بها على منتقدي عمله الشهير «أكلة البطاطا» الذي أنجزه عام 1883، والذي يعتبر بنظر الكثيرين اليوم، أول أعماله الفنية العظيمة. كان «فان غوخ» قد باشر مؤخراً في ممارسة الرسم، ولم يكن قد خرج بعد بالتقنيات التي أضفت على أعماله أسلوبه المميز.
انشغل قلةٌ من محترفي النقد في عصره بانتقاد لوحته الوليدة ومظهر الفلاحين البسطاء، المجتمعين حول طاولة الطعام بهناء لا يتناسب مع بساطة طعامهم المكون من البطاطا والقهوة، انتقدوا قدراته على استعمال الفرشاة والألوان، ومعارفه التشريحية والمنظورية، دون أن يلتفت سوى القليل منهم، لما تحمله اللوحة من أحاسيس جميلة، حتى أخوه «ثيو» الذي كان يرسل له فان غوخ أعماله الفنية ليبيعها، ومشجعه الرئيسي على الاستمرار في الرسم، رغم إبداء إعجابه بما صنعه أخوه بقوله «بمجرد النظر إلى هذه اللوحة، يستطيع المرء سماع أصوات تطارق قباقيب الجالسين»، لم يسعه سوى أن ينتقد الأشكال بقوله «جذوعهم تبدو أسوأ من رؤوسهم».
لوحة يمكن سماعها..
أعمال «فان غوخ» وكلماته التي يبدو الجمال فيها لمعظمنا بديهياً اليوم، لم تكن تعتبر كذلك قبل ما يقل عن مئة وخمسين عاماً، هذا الضغط الهائل من عدم الفهم والتخشب ممزوجاً بثقته الكبيرة في أنه على الطريق الصحيح، دفعه ليقول لأحد أصدقائه الفنانين ممن واجهت إحدى أعماله مصيراً مشابهاً لمصير أعماله من النقد والهجوم اللاذع: «دعهم يثرثرون قدر ما يشاؤون حول التقنية بألفاظهم الجوفاء المنافقة الخالية من أي معنىً، الرسامون الحقيقيون ينقادون لمشاعرهم، ليست العقول والأرواح موجودةً في خدمة فرشاة الرسم، بل العكس هو الصحيح».
«فان غوخ» مثال للعبقري الذي قدم للجنس البشري أعظم الأعمال الفنية، ليحصد بالمقابل، في حياته على الأقل، الفقر وقلة الاهتمام إلا بهدف التجريح، ونقص الفهم والبصر والبصيرة. عرف جنسنا الكثير من الفنانين العظماء، وما زال يضج بهم اليوم، لكن لا يحظى جميع العظماء بقدرة هذا الفنان على طبع صورة لروحه على قماش لوحته.
يأتي في هذا السياق أول أعماله الفنية العظيمة، كنموذج للعمل الفني البكر الخالي من شوائب روتين الاحتراف، روح صرفة لإنسان فنان، لا مجرد عرض آخر لعضلات التقنيات الخالي من الأحاسيس إلا ما ندر، خمسة أشخاص، يبدو من مظهرهم ولباسهم وخشونة ملامحهم أنهم من الفلاحين الفقراء، أربع نساء ورجل واحد، يجتمعون حول طاولة العشاء على ضوء قنديل زيت خافت، بالكاد ينير وجوههم وسطح الطاولة، تاركاً ما بقي من الغرفة شديد العتمة، تظهر مشاعرهم المختلطة على وجوههم بوضوح، لدرجة يكاد يحس الناظر بإمعان وتدقيق إلى هذه اللوحة، أنه يسمع الحوار الدائر بينهم.
«عفوية البطاطا»..
تكمن روعة هذه اللوحة في أنها بعيدة كل البعد عن الارتجال، دون أن يبدو هذا واضحاً للمشاهد. خطط «فان غوخ» طويلاً لهذه اللوحة، منجزاً عددا ً لا بأس به من السكيتشات، وأخذ آراء العديدين قبل أن يضرب ضربةً واحدةً بفرشاته. بينما تبدو للناظر كأنها لوحةٌ رسمت لأشخاص جالسين في ما قد يعتبر أنه منزلهم، يمارسون حياتهم الطبيعية دون الالتفات لذلك الرسام الواقف هناك ينقل ما يراه، في سرعة وإيجاز كافية لالتقاط حركاتهم الاعتيادية، بالتأكيد لم يكن الأمر كذلك، قد لا نلاحظ شيئاً غريباً اليوم، وسط الفيضان العارم من الصور الفوتوغرافية الفورية التي تجتاح أبصارنا، لكن الأمر مختلفٌ تماماً عندما يتعلق الأمر بلوحة يتم التخطيط لها وإجراء الكثير من الدراسات قبل البدء فيها، لا شيء تلقائي بديهي في إنجاز «أكلة البطاطا»، تكمن عبقرية فان غوخ في أنه تمكن من إظهارها بديهيةً عفوية. لم تنل لوحته المكانة التي أرادها لها، ولم تعرض في «الصالون» أحد أهم المعارض الفنية في ذلك الوقت، لم يرها في عصره سوى القلائل، بينهم أخوه ثيو، وجاره ألفونس بورتييه، أحد مقتني الأعمال الفنية المتحمسين للفن الانطباعي، وأحد الأصدقاء الفنانين الأكبر عمراً، «شارلز سيريه».
وصف سيريه لوحة غوخ بأنها غير ناضجة، لكن واعدة، وكان هذا كافياً لـ«فان غوخ»، رغم أنه كان دون توقعاته، لكنه كان مدعاةً للتفاؤل في أنه يسير بالاتجاه الصحيح. كانت تلك نقطة البداية للإرث الرائع الذي أنتجه غوخ لنا فيما بعد، دون أن تحبطه الانتقادات الحادة لبعض الأصدقاء المقربين، مثل النقد الأسطوري لهذا العمل من قبل صديقه «فان رابارد»، الذي كان أكثر ما قاله فيه تعاطفاً: «أعرف أنه بإمكانك - لحسن الحظ - أن ترسم أفضل من هذا!».
صاحب المشروع.. يصنع الطريق
عرف «فان غوخ» أنه على الطريق الصحيح لأنه كان صاحب مشروع، ولأنه كان يسير بحسب مشروعه هذا، لا بحسب الرغبة في نيل كلمات المديح والثناء فقط، أراد أن يرسم المشاعر، ليشعر الناظرون إلى أعماله بهذه الأحاسيس المنطبعة على قماش لوحاته، لا أن يتفنن في نقل ما تراه عيناه وكأنه آلة تصوير، واستمر في المنهج نفسه الذي وضعه لنفسه، لا عناداً فارغاً، بل عن دراية ومعرفة تامة لما هو مهم ولما هو أهم.
قد لا نجد في سير الفنانين جميعاً من تزيد قصة حياته مأساويةً عن قصة حياة هذا الفنان، ولم يعان أحد مثله في سبيل مشروعه الفني، وهنا ربما تكمن أهم رسالةً تختزل مسيرته المميزة، قد لا يرى معظم الناس اليوم في ما تفعله سوى الأخطاء وقد لا تنال أفعالك رضا الغالبية العظمى، لا يعني هذا أنك على خطأ، بل يعني أنك تفتح باباً في جدار أصم، لتشق للناس من بعدك طريقاً لم يكن ليكون لولاك، هنا تكمن قمة الإبداع، أن ترى بوضوح شديد، ما يعجز الباقون عن مجرد تخيله. كم من فان غوخ آخر عرف عالمنا بعده وقبله، كم من فان غوخ يسيرون بيننا اليوم، يرجمهم الناس ويحملونهم شرور ما فعلوا وما لم يفعلوا، ككبش الأضحية الأسود، وكل ذنبهم أنهم يقدمون كل ما يستطيعون لفتح باب آخر لا وجود له، كي تنفذ منه مجتمعاتنا إلى مستقبل منير، عوضاً عن اجترار الطرق القديمة البالية التي لا تؤدي بأحسن الأحوال إلا إلى حيث نقف الآن.