عصيّ الدمع
تبدأ معظم الإعلانات الترويجية للأفلام الوثائقية ومقاطع الفيديو المسرّبة عن الحدث السوري عبر قنوات التلفزيون أو صفحات الإنترنت بعبارات من قبيل: «فيلم مؤثّر»، «الطفلة التي أبكت العالم»، «لايمكن أن تحبس دموعك عند مشاهدة المقطع التالي»،
كما لو أن الأمر مباراةٌ في حدود التأثير أو المدى الذي قد يصل إليه إبداع من صوّر وأعد تلك الأفلام لاستجرار المشاهد نحو نحيب طويل لا ينتهي..
ربما تظهر فروق فردية بين فيلمٍ وآخر في النظرات الإخراجية والقدرة على التقاط التفاصيل، واختلافات في التطور التقني ونقاء الصورة ووضوح الصوت، أو تتغير أماكن التصوير وأسماء الضيع والمحافظات بالرغم من أن المشهد يبدو واحداً يظهر الطفل السوري باعتباره البطل الأول والضحيّة، هو هكذا «الطفل السوري» مع ألف ولام التعريف، كما لو أن وجوه الأطفال جميعاً، وعيونهم الخائفة المذعورة وبكاءهم الطويل اندمج في وجهٍ واحدٍ.
قد يقف المشاهد ذاهلاً أمام هذا الغرور الخفي لصنّاع الأفلام بأنهم أعدّوا مشاهد مؤثّرة، هل هذا الأثر العميق بالمرارة الذي يستطعمه المشاهد بعد انتهاء الفيلم هو إنجازهم الخاص، أم أنه انعكاسُ لواقعٍ مؤلمٍ حد البكاء؟ هل كانت المهارةٌ حقّاً في حركة عدسة الكاميرا التي تقترب شيئاً فشيئاً لتتوقف عن العيون المتعبة الحزينة؟ أم كان ذلك انتصار العيون وحدها؟
أثبت كمّ الأفلام الوثائقية والصور والمشاهد التي أنتجت في العاميين الماضيين أن التبجّح بالقدرة على خلق التأثير والتعاطف والحزن ليس كافياً، خاصةً بعد أن أصبح من الصعب حقاً دفع المشاهدين إلى البكاء وهم الذين اختبروا شتى صنوف العذاب وشاهدوا بأم عينهم أو على شاشات الصور مئات المشاهد المؤلمة. الأمر الذي وجه الأنظار نحو جوانب أخرى، ليغدو السؤال الأهم حول المقولات والرسائل التي تحاول تلك الأفلام إيصالها، والجهات التي تقوم بإنتاجها وترويجها.
تختلف درجة وضوح وعلانية المقولات التي حملتها الأفلام التسجيلة؛ البعض اختبأ وراء الرغبة في ترك النهايات مفتوحة، واعتبر آخرون بأنهم يريدون تصوير «الحالة» دون تقديم أي نوعٍ من الإجابات أو الحلول، فيما عبر الكثيرون علانية عن الرسائل التي يحاولون إيصالها وبأشد الصور وضوحاً ومباشرة، كما لو أنهم يحاولون خلق «نموذج المثير والاستجابة» لتكون صورة الطفل الباكي الخائف مثيرة يدفع المشاهد لتبني استجابات محددة كالاعتراف بالسلاح باعتباره الخيار الوحيد لحل الأزمة، أو المطالبة بالتدخل العسكري، أو الإمارة الإسلامية، أو التطهير والحسم العسكري دون هوادة، باختلاف شتى المرجعيات والجهّات التي موّلت وأنتجت تلك الأفلام.
لم يعد منتجو الأفلام الوثائقية اليوم قادرين على الاختباء وراء عدسات الكاميرا، كما لم يعد يكفي أن يكون الفيلم مؤلماً أو حزيناً حتى يترك الآثر المطلوب، فالمشاهد اليوم عصي الدمع، ينتظر بصبر صيّادٍ اكتشاف الرسائل والمقولات المعلنة والضمنية حتى يحدد موقفاً واضحاً منها، يكفيه فقط أن يرى اسم الجهة المنتجة للفيلم حتى يكمل السيناريو وحده.