سقوط الوهم ..
تصبح الفنون في ظل الأزمات والحروب، أموراً ثانوية عند البعض ولكنها يمكن أن تكون من أهم أشكال التعبير والتصوير والتوثيق لهذه المراحل المفصلية في التاريخ لكل شعوب العالم
لذلك يتوقع دائماً من العاملين في هذا المجال من مؤلفين موسيقيين وسينمائيين ورسامين.. الخ، أن يكرسوا جهوداً كبيرة لإسقاط الضوء على الواقع، والقيام بهذه المهمة التاريخية الدقيقة.
كشفت الأزمة العميقة التي نعيشها غياب مشروع ثقافي وطني يكون على مستوى المرحلة ومتغيراتها، مع ما تعانيه سورية أساساً من ضياع الهوية الثقافية سابقاً نتيجة النماذج الليبرالية المستحدثة، والتي كان نتاجها ما يعاني منه المجتمع الثقافي «النخبة» حالياً حالة من الاغتراب الكبير مع الواقع نتيجة الأحداث الدامية.
ربما يتحكم بهذا الاغتراب عدم تقبل هذا الواقع والخوف من مواجهته، مما أدى بالعديد من الموهوبين الشباب للبحث عن مخرج، فكان أحدها اعتماد أحد أشكال التخدير، سواء كان بالمخدرات، أو ما درج بمسمى «الحشيش» أو حتى «الكحول»، التي تصب كلها في النهاية في خانة المهدئات التي توقف عمل العقل بشكل جزئي أو كلي.
واليوم تتفشى هذه الظاهرة بشكل كبير بين الأوساط الشبابية التي تميل للإبداع فيعتمدونها شرطاً له، ويقومون بخلق طقوس للهروب من الواقع، من خلال فيض الأحاسيس، وخلق إبداع يحكمه فرط مشاعر ناتج عن تخدير كامل للعقل، ومهما كان نتاج العمل في حالة التخدير هذه نتاجاً ضعيفاً وغير مبدع في أغلب الأحيان فالاعتقاد السائد عند أصحابه أنه إنتاج خارق.
ويمكن هنا أن نذكر عدة نماذج تاريخية مثلت هذا الاتجاه في الجانب الموسيقي على الأقل، حيث يذكر أن المؤلف الموسيقي العالمي «شومان» قد أصيب بمرض، اضطر من خلاله أن يدخل إلى مشفى الأمراض العقلية، وكان هناك يعيش على المهدئات، وقد ألّف شومان الكثير من الأعمال في تلك المرحلة وأطلق عليها تسميات «أجمل ألحان الملائكة» ظاناً أنه يبدع أجمل وأفضل موسيقا في العالم حسب تعبيره، ولكن ما تم استنتاجه ثم تقييمه لاحقاً أنها كانت أضعف أعماله وأقلها إبداعاً؟
وكذلك كان حال المؤلف التشيكي العظيم «سميتانا» في نهاية «أوبرا فيولا»، حيث كان تحت تأثير العلاج بالمهدئات خلال مرضه والملفت أنه كان يعتقد أيضاً أنها أفضل نهاية قد تكتب لأوبرا..!
الإبداع محكوم بعمل العقل، ولا يوجد إحساس ولا عاطفة إلا وخلفها عقل يعمل، غني بالذكريات والذخيرة الفكرية التي يحتاجها الإبداع. والعقل وحده هو الذي يتحكم بعملية الإبداع والإحساس هذه. وبه فقط يمكن أن نبني تراكماً يرسم ويحدد أشكالاً جديدة للإنتاج الفكري والفني الأفضل. نعيش اليوم في ظل مرحلة مخاض وانتقال سياسي سيفرض تحولات جديدة في المجتمع السوري، مرحلة تحتاج إلى بناء ثقافي وطني متجدد، بعيداً عن التشوهات التي شهدناها سابقاً، ومن تمثّل أشكال ثقافية تعمق غربة المبدعين في واقعهم وتبعد هذه النخبة عن العامة، لذلك سيكون لانتشار ظاهرة المهدئات -والتي قد تكون إحدى نتائج الأزمة اللاحقة والحالية- دور سلبي في البعد عن العمل الجاد وتنفيذ المشروع المنتظر لبناء الهيكل الثقافي المتجدد للبلاد الذي تنتظره الأجيال القادمة، وهذا واجب وطني لكل مثقف سوري ومسؤولية تاريخية تحتاج لعقول متوازنة ومتكاملة مصقولة بكل أشكال العلم والثقافة وخارجة عن المقولة المألوفة إن أساس الإبداع هو الإحساس المجرد والذي لا يمكن الوصول لذروته إلا عن طريق التخدير وفقدان العقل.