القصة الساخرة شكل إبداعي بقي ضالاً ومشاكساً
ذات يوم من عام 1997، قرر بعض المهتمين، والمتابعين لشأن القصة الساخرة في ساحة الأدب في سورية، وتحديداً بجهود الناقد أحمد عزيز الحسين، أن يقيموا لها – للقصة الساخرة- مهرجاناً، أي كان ذلك منذ أكثر من خمسة عشر عاماً،
سُمي ذلك المهرجان بـ«مهرجان القصة الساخرة الأول في طرطوس» غير أن ذلك المهرجان الذي بحث يومها في اتجاهات القصة الساخرة ومقارباتها وتوصيفها، وغير ذلك من أبحاث في هذا الشكل القصصي الضال والمشاكس، بقي بالتعداد مهرجاناً أول، ولم يكن له ثانياً، ولا ثالثاً للإحاطة بكل تفاصيل هذه التجربة: قراء نصوص، وندوات، ودراسة.!
النزوع الساخر
وكانت الفكرة التي انطلق على أساسها المهرجان – وكما ذكر لي الحسين نفسه في حوار معه – هي مواكبة متفحصة للنتاج القصصي السوري، وقراءته قراءة متأنية، فقد لوحظ أن ثمة نزوعاً ساخراً بدأ بالتوضع داخل الفضاء القصصي السوري، وذلك منذ خمسينيات القرن العشرين، تمثّل في نتاج حسيب كيالي، ثم في نتاج يوسف المحمود، وبعض نصوص كل من: وليد مدفعي، أديب النحوي، سعيد حورانية، و.. من ثمّ انضمّ إلى هؤلاء في العقود التالية عدد لافت من كتّاب، حتى أن بعضهم أوقف نتاجه على كتابة القصة الساخرة كأنيس إبراهيم، وأحمد عمر، وجمع بعضهم الآخر بين القصة الجادة والقصة الساخرة كوليد معماري، حسن م.يوسف، عبد الحميد يونس، محمود عبد الواحد، و.. قد وشى هذا التنامي باستمرار النزوع الساخر في القصة السورية، وتحوله إلى مشروع اتجاه أو ظاهرة، لكن من دون أن يبلغ هذه الغاية..؟!
وهنا لا مجال للحديث عن ظاهرة السرد القصصي لا في سورية، ولا في غيرها من الدول العربية، ذلك أن هذا العدد من القاصين، وكذلك من الإصدار القصصي الساخر، ليس كافياً من حيث العدد، ومن الناحيتين النوعية والكمية لتشكيل ما يُسمونه «ظاهرة»، وحسبما يرى النقاد، فإن الظاهرة لتكون كذلك لابد من أن تخرج بنفسها عن النسق كله وعن مساره، أو تكون المسألة في حالة انحسار قبل تسميتها بالظاهرة، وتصير ظاهرة حين تنتشر وتزدهر، ومن هنا يدرج الناقد صلاح صالح في الميل السابق، أو التنامي السابق باتجاه الكتابة الساخرة ضمن مستويات رئيسة تندرج من الأقل اتصالاً بفن السخرية إلى الأكثر تجسيداً فنياً لها.
نجد المستوى الأول لدى عدد من كتاب القصة الذين لم تؤثر فيهم كتابة القصص الساخرة، لكن بعض قصصهم جاءت قريبة بشكلٍ ما من جو السخرية، والمستوى الثاني تمثل بتناول بعض مظاهر القبح في الحياة الاجتماعية السورية، والثالث تمثل فيما تمكن تسميته «كوميديا سوداء» مكتظة بالأجواء الكابوسية، وبتغليب الطابع الذهني، والميل إلى التنميط، وتمثل المستوى الرابع في قصص مجموعة من الكتاب الذين يمتلكون الموهبة والميل إلى السخرية والقدرة على سبر أغوار الحياة الواقعية، وإتقان التنقيب عن بعض العيوب الخفية التي تستطيع أن تطرف أحياناً، وأن توجع وتؤلم في معظم الأحيان، وأما المستوى الأخير، فنجده لدى مجموعة من الكتاب الذين يسمون ما يكتبون أدباً ساخراً، ويتعمدون أن يقع نتاجهم في إطار الأدب الساخر من دون أن يتأتى لهم ذلك بالضرورة.
في محيط التجربة
والواقع إن هذا النزوع لم يلق إلى الآن اهتماماً نقدياً يوصفه ويؤطره، شأنه في ذلك شأن النتاج الأدبي الحديث في سورية عموماً، باستثناء بعض المقالات النقدية ذات الطابع الإعلامي التي قام بها المشتغلون في الصحافة الثقافية السورية، أو التي كتبها القاصون أنفسهم، لكن كان طابع المجاملة قد طغى على أغلب هذه المساهمات، فلم تُضئ هذه المتابعات النصوص من الداخل، ولم تُفلح في وضع إطار منهجي رحب يُقاربها من خلال تفكيك بنيتها..
حظيت القصة القصيرة في سورية بمن يكتب عنها كتابة منهجية منذ أربعة عقود ونيف، وقد اتسمت المؤلفات النقدية المكتوبة عنها بالغزارة، وتنوع المقاربات والرؤى المنهجية، وفي هذا الصدد يمكن أن نذكر مساهمات شاكر مصطفى، عدنان بن ذريل، حسام الخطيب، نبيل سليمان، محمد كامل الخطيب، رياض عصمت، وعبد الرزاق عيد، إلا أن هذه المؤلفات، وإن حاولت دراسة حسيب كيالي، ومن تلاه من كتاب القصة الساخرة، بقيت – على ما يرى الناقد الحسين – تدور في المحيط الخارجي لهذه التجربة، واقتصرت طبيعة مقاربتها على المطابقة بين البنية النصيّة والبنية الاجتماعية، أو على الفصل بين لغة الكيالي الساخرة، وبنية القصة لديه، فبدا واضحاً أن السخرية وفق المؤلفات السابقة تنبع في تجربة الكيالي من اللغة وحدها مفصولة عن بنيتها النصيّة المندغمة فيها، أو من طبيعة المتن الحكائي نفسه، و.. هكذا لم نعرف مثلاً: لماذا استعان الكيالي أو يوسف المحمود بمفردات محلية معينة في قصصهما؟ ألأنهما أرادا ذلك، أو تقصداه بمعزل عن علاقته بالمعمار الفني الذي تعالق معه، أم لأنّ بنية القصة لديهما وحركيتها الداخلية هي التي أملت عليهما استدعاء هذه المفردات دون غيرها؟!
إن فهم «السخرية» في تجربة حسيب كيالي لا يتجاوز في أغلب الدراسات السابقة النظر إلى الألفاظ معزولة عن سياقها المندغمة فيه، إلى المتن الحكائي بوصفه بنية نصيّة منتجة في إطار بنية ثقافية سوسيو – نصية.. وبرأي الكثير من النقاد، إن ما كُتب عن جيل حسن م. يوسف، وليد معماري، تاج الدين الموسى لا يتجاوز المقاربة السابقة، ولا يرتقي فوق الفهم السطحي لعلاقة اللفظة الساخرة بالقصة الساخرة، مع ملاحظة أنه لا وجود للفظة معزولة عن سياقها الذي تندرج فيه..!
و اللافت أيضاً، صدور أعداد كبيرة من المجموعات القصصية خلال النصف الثاني من القرن العشرين، لتبلغ ذروة الصدور في عقد التسعينيات، أغلبها يميل نحو اللون الساخر، ثم ليتراجع السرد القصصي بشكلٍ عام مع بداية العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، هذا اللون – الساخر- كانت له رموزه فيما مضى، نذكر منهم حسيب كيالي، سعيد حورانية، وزكريا تامر من جيل الرواد، الذين تتلمذ على أيديهم الكثيرون من المميزين اليوم نذكر منهم حسن م. يوسف، تاج الدين الموسى، و.. آخرون ثم جاء جيل تال – ربما- كان أشد تميزاً وحرفية منهم: علي صقر، معروف معروف، وأسامة حويج العمر، وآخرون أيضاً. ثم كأن الأمر توقف هنا بشكلٍ يُثير الكثير من التساؤلات.!! و..من هنا فلا مجال للحديث عن ظاهرة السرد القصصي لا في سورية، ولا في غيرها من الدول العربية، ذلك أن هذا العدد من القاصين، وكذلك من الإصدار القصصي الساخر، ليس كافياً من حيث العدد، ومن الناحيتين النوعية والكمية لتشكيل ما يُسمونه «ظاهرة»..!
التباس وضبابية
لا يزال مفهوم «السخرية» مفهوماً ملتبساً، وغائماً، وضبابياً، و.. ربما قيد التشكّل، فالسخرية في المفهوم البلاغي العربي، هي طريقة في الكلام يُعبّر بها الشخص عكس ما يقصده بالفعل، كقولك للبخيل ما أكرمك، والغرض من السخرية يكون غالباً هجاءً مستوراً أو توبيخاً أو ازدراء، والاستهزاء اصطلاحاً: هو المهاجمة الكلامية التي تتضمن السخرية والاحتقار المر، وكذلك ما يتخذ شكل قول يُعاكس المقصود، وفي الأدب العربي فإن جذور السخرية تمتد إلى الهجاء الذي يُعد الجذر الأقدم لفن السخرية في تراثنا الثقافي، وعلى ما يرى الناقد صلاح صالح، يمكن عد كتاب البخلاء للهازل الكبير الجاحظ كتاباً اختصاصياً في فن المهزلة الاجتماعية، وتلا الجاحظ أبو حيان التوحيدي في كتابيه « الإمتاع والمؤانسة» و«أخلاق الوزيرين»، و.. المقامات بمجملها يمكن عدها أيضاً فناً مكرياً لطرح الفكاهة واللهو، و.. تندرج في المؤلفات النثرية لأبي العلاء المعري أيضاً في إطار السخرية التراثية، وخصوصاً «رسالة الغفران»..!
ورغم هذا التراث البعيد في فن السخرية، بقي هذا الاتجاه يأخذ الطابع «الإفرادي» في مسيرة القص الساخر في سورية، و.. حتى في مختلف مناطق العالم العربي، وكذلك في مختلف أنواع الإبداع – الرواية، المسرح، الدراما، و.. الشعر- الأخير الذي كان ساحة السخرية الأولى.. وهنا يمكن تلمس ظاهرة، ليست سورية وحسب، وقد كنا نخالها كذلك، بل تكاد تكون عربية بامتياز، وهي خلو الساحة الأدبية، وحتى في مجال الفنون البصرية على أنواعها وتنوعها، من السخرية الحقيقية، يُعادل ذلك على مستوى التلقي، أنه لم يعد ثمة متلقٍ لديه القابلية لأن يتقبل السخرية، أو حتى لا يريد أن يضحك، بل لا يريد حتى أن يبتسم، وكأن سهام التجهم قد أصابت الجميع، ولم يسلم منها أحد، حتى أنهم في مصر، وبوفاة «الولد الشقي» كما كانوا يلقبون الكاتب محمود السعدني، ينظرون إلى ساحة السخرية التي طالما تميزت بها مصر، على أنها قد حُسمت لمصلحة الكوميديا السوداء، فـ«القارئ الذي كان يستغرق في الضحك، يشعر اليوم بالانقباض بعد قراءة كتّاب اليوم الذين تقطر المرارة من أقلامهم وينتهجون نهج الكوميديا السوداء » .
معادل لما هو واقع
هل يأتي الأمر لأن الأدب والفنون هما المعادل لما هو واقع في الحياة، وهما الترمومتر لقياس مزاج الحالة الإنسانية التي يعيشها «المواطن» في العالم العربي، أم ثمة إفلاس في هذا الشكل الإبداعي، ولاسيما بعد «تقاعد» من بدؤوا بأشكال التعبير هذه، أو بعد وفاتهم، ومن ثم حُكم على من جاء بعدهم، إما بتقليدهم بشكلٍ سيء، أو الذهاب بالسخرية باتجاهات أخرى أبعدتها عن السخرية مئات الكيلو مترات، وإن لم يكن كل من تسمى فيما مضى كاتباً ساخراً كذلك، حتى لا نقع بالحنين إلى الوهم، كما يقع البعض في هذا المرض المزمن، إذ يسمون كل ما هو قديم بـ«الزمن الجميل» مع أنه قد يكون في منتهى القبح، أو لأنه جاء إلى الساحة على فراغ، ولم يكن «في الميدان غير زيدان» ومن ثم كان ما أجمل «عطساته» إن عطس، فكيف إن كتب أو مثّل، أو هناك كتاب كثر لكن لم ينتبه إليهم أحد، وهم بدورهم استطابوا العيش في الظل؟! فالكثيرون اليوم يرون أنه لم يأت في سورية كاتب ساخر بحجم حسيب كيالي على سبيل المثال، وفي مصر هل ثمة من قارب عبد القادر المازني؟ هذا في الأدب، وتحديداً في القصة القصيرة، التي يبدو أنها حملت عبء الهجاء عن الشعر كأحد أغراضه المنقرضة، صحيح أن الكثير من الكتّاب الشباب كان لدى العديد منهم بعض «الالتماعات» في الكتابة الساخرة، غير أن من صفاتها أنها كانت غير مستديمة، وأحياناً كبيضة الديك، ومن ثم كان هذا الوقوع الكبير في «التعجيق والاستظراف » واللعب بالألفاظ على أنها كتابة ساخرة، ناهيك بالعشرات الذين «يكرسون أو كرسوا أنفسهم» على أنهم كتّاب ساخرون من دون وجه حق ، حتى أن من لم ير فيهم هذا الأمر عد مارقاً، أو لأن الكوميديا والسخرية، والكاريكاتير كفنون من نوع خاص، تحتاج إلى فضاءات واسعة من الحرية يضيق بها العالم العربي ؟! أما في الدراما، والفنون البصرية بشكلٍ عام، فقد توافر الكثير من الفنانين الذين أثبتوا جدارة في الكوميديا، في بعض المشاهد الدرامية- تلفزيون، مسرح، وسينما، ربما تفوقوا من خلالها على من سبقوهم ولاسيما لجهة الحرفية العالية التي قدموها، غير أنه لسببٍ أو لآخر لم يستمروا، ومن ثم كان هذا اليباس في ساحة الكوميديا، أما في مجال الكاريكاتير، فكأن الأمر توقف منذ زمن ولا أمل بعودته.؟!
و.. من ثم كان أن حصلنا على «سخرية» ربما، لكنها بالتأكيد الخالية من العمق، و.. ربما كان هذا سبب «مقتلها» عند الكثيرين، وهو النظر إليها على أنها فن، أو إبداع سطحي.!
المصدر: تشرين