«حصيلة نهائية»

«حصيلة نهائية»

سوداء كانت السماء كما القلوب.. لم تصمت أنات العويل منذ الصباح.. الكل يحاول جاهداً مواساة الأم لكنها كانت في عالم آخر.. عائلتها أصبحت بجانبها بالفعل.. لكن مع فارق كبير.. توابيت فتياتها وزوجها ملقاة أمامها في مشهد يذكر بجنازة الابن البكر قبل بضعة أشهر..

تهامس أهل الحي حول حجم المصيبة.. وتزايد الجمع مستهجناً مرارة الأقدار في العراق الحزين.. لكن أحداً لم يشعر بالشاب الغريب بين صفوف الناس.. لم يكن مهتماً بمصيبة تلك المرأة ولم يكن يعرف أياً من شاغلي التوابيت.. لقد كان نظره مثبتاً على اسم المسجد الحاضن لهذه الجنازة..

 إنه يتذكر جيداً كلمات «الشيخ» الأخيرة.. «الموت للكفرة».. كان يشعر بأن الجميع قادر على رؤية الحزام المربوط تحت ثيابه.. لكنه سيطرق رأسه وهو يقترب أكثر فأكثر بين الجموع.. سيضغط بسرعة على زر التفجير.. «لن تشعر بشيء» قيل له.. ستتناثر الأشلاء القانية تلطخ سواد الجنازة.. وسيصل الدخان إلى حدود السماء.. لكن كل ما سيتغير أمام الناس المتسمرة أمام الشاشات هو عدد «القتلى».. «الشهداء».. وربما سيصبح العنوان أكثر سخرية: «جنازة تتحول إلى جنازات..».
خمسة من هنا وعشرة من هناك وتكتمل عملية الإحصاء النهائية، وستطالعنا المذيعة الأنيقة لتطمئننا بأن الرقم المعروض في الأسفل هو الأكثر دقة، عندها يصبح بالإمكان الانتقال إلى بقعة دامية أخرى لبدء العد من جديد.
لن يشعر بالفرق سوى الابن المسافر المصعوق لرؤية حيه تحت الركام وعلى أكثر من شاشة، «لا يمكنك الاتصال الآن.. عاود المحاولة لاحقاً»،  يرمي الهاتف بعيداً بنزق لكنه يظل أسير صوت التلفاز، «خمس ضحايا من عائلة واحدة» تقول المذيعة ذاتها، «إنهم خمسة هناك بالفعل» يهمس لنفسه ويحبس أنفاسه للحظات ثم ينظر إلى الساعة ويفكر: «إنه وقت المدرسة.. أختي هناك الآن.. إنهم أربعة..!» لكنه سرعان ما يغمغم بحنق «المدرسة قريبة جداً من منزلنا والانفجار كبير»، يشعر بالدوار وتكتمل الدوامة الخانقة بصوت المذيعة تعلن ورود النبأ «العاجل»: «ارتفاع عدد الضحايا بعد انتشال جثث إضافية من تحت ركام مدرسة قريبة! وسنوافيكم بكل جديد حول الحصيلة النهائية فور وروده». يضرب يده برأسه وهو يسمعها تلقي بكل هذه الأنباء ثم تنتقل إلى «آخر أخبار الطقس..!».
أصبحت أخبار الموت تلاحقنا أينما ذهبنا، «عاجل» وراء «عاجل» على الشاشات وفي الشوارع والمحلات وإن أغفلنا النظر عنها لاحقتنا «رسائل نصية» أصبحت تحوي الخبر الدموي ذاته مع تغيير بسيط في المكان والزمان و«الحصيلة النهائية»، تبلدت المشاعر، وأصبح الخبر عادياً جداً بمرور الأيام ولن يستوقف الخبر الكثير منا إلا إذا كان متعلقاً بسلامة أحبائنا..
لا مكان في القلب لمصاب الغير.. فلدينا من الحزن ما يكفي وأكثر.. سيبقى ذلك الإنسان المدفون تحت السيارات المحترقة أو بين أشلاء جاره رقماً مجهولاً بلا وجه أو عائلة.. دون أن يعي أحد بأننا أرقام تتنفس وتعمل وتأكل وتنام، وتنتظر أن تسلك شارعاً خاطئاً أو أن تستقل سيارة متأخرة لتصبح جزءاً من هستيريا إعلامية لا تهتم إلا بجمع الأرقام و«تكديس» صور الضحايا في سباق محموم لغسل الدماء تتضاءل فيه قيمة الفرد أمام خبث الناقلين وحقد المنفذين، عندها قد تسترعي أخبار تحولنا إلى أرقام اهتمام أحدهم على شاشة ما، وفي مكان وزمان ما، أو قد تجعله يتنهد قليلاً، ثم يغلق تلفازه، وهو ينظر إلى الصور الملفوفة بالشرائط السوداء على الجدار..