أنا ضد حقوق الإنسان

أنا ضد حقوق الإنسان

ربمّا يتذكر الكثيرون ذلك الزمن الذي كنّا نتبادل فيه بطاقات اليونيسيف البريدية الملوّنة التي تصورّ أطفالاً من مختلف الأعراق والجنسيات بأزياء شعبية وتراثية مزركشة، يمسك الواحد منهم  بيد الآخر مبتسمين، فيما يشكلون حلقةً كونيةً سعيدة!

لم يكن ممكنّاً استذكار كلمات: طفولة، حقوق طفل، دون أن يرتسم في الذهن اسم اليونيسيف، كما لم يكن ممكناً كذلك الحديث عن «حقوق الإنسان» دون أن تَطُلّ «الأمم المتحدة» برأسها كالحامي الوحيد لحقوق هذا الكائن المسمّى «إنسان» على متن الكوكب. بالطبع لم تنس الأمم المتحدة في وثائقها ومواقعها الرسمية التفريق بين إنسان الشرق الأوسط وإفريقيا كما تصنفه وغيره من جماعات «الناس» الأخرى.
وحينما كان يتم الحديث عن ضرورة حماية البيئة والرفق بالحيوان كانت تقفز إلى الذاكرة صور الناشطات (الباكيات) اللواتي ينشغلن في دفع الدلافين إلى الماء مجدداً كما لو أنها القضية الجوهرية الوحيدة، في الوقت الذي يتم فيه تجاهل السبب الذي دفع بتلك الكائنات الضخمة المسكينة للخروج هرباً من المحيطات! وحمل الحديث عن الصحة صورة أولئك النباتيين المتطرفين الذين يهبوّن لقتال «أكلة اللحوم» المجرمين!
كان وما يزال الحديث عن حقوق المرأة يستحضر لأذهان العديدين، صورتين شديدتي التناقض: إما وجوهٌ لنساءٍ ضعيفات ذليلات معنّفات، تستخدم صورهن من المنّظمات الناطقة بأسمائهن لشحذ حقوقهن، أو على النقيض من ذلك صور نساء غاضبات يندفعن  ويحتججن عاريات الصدور  مخيفاتٍ بذلك الرجال والنساء على حدٍ سواء!
شكلّت أسماء تلك المنظّمات وطبيعة نشاطها لسنوات طويلة منعكساً شرطياً خاصاً في الوعي الاجتماعي الشعبي، بحيث يكفي أن يذكّر اسمها حتى يتبادر إلى الذهن  كل الأفعال والنشاطات التي تشكل نقيضاً لها!  انشغل«مساكين الشرق الأوسط وإفريقيا» بالنجّاة بأنفسهم بعيداً عن منظّمات حقوق الإنسان، فيما عملت آلاف النساء بصمت في بقاعٍ مختلفة من الكرة الأرضية  لكسب حقوقهن كبشرٍ أولاً، ونساءٍ ثانياً، بعيداً عن صخب المنظمات النسائية. فرغ اسم تلك المنظمات من معناه، تماماً كما حدث مع مصطلحاتٍ كالديمقراطية والعلمانية.
كانت القضية الفلسطينية إحدى المفاصل الحسّاسة على الصعيد العربي على أقل تقدير، في  فهم الهوة الكبيرة التي تفصل بين مسميات منظمات حقوق الإنسان وحقيقة حالها، في الوقت التي تضع  فيه الأمم المتحدة قائمة بالقضايا الموضوعية في موقعها الرسمي، على سبيل المثال وتتضمن حملات لإيقاف العنف ضد المرأة والطفل، ومنع الاتجار بالبشر، وتعمل للكفاح ضد العنف الجنسي في النزاعات تتحدث دون خجل عن برامج التوعية المتعلّقة بمحرقة اليهود، كموضوع حساس ما زال مستجداً على قائمة أعمالها! كيف يمكن فهم الآلية التي تعمل الأمم المتحدة وفقاً لها مع تجاهل كون مجلس الأمن أحد أجهزتها الرئيسية الستة!
يحتاج الذهن البشري اليوم لعمليات معقدة من «فك وإعادة ترميز» الدلالات التي أصبحت مرتبطة بعمل تلك المنظمّات، كي يبرهن أنه حين يعترض على منظمات «حقوق الإنسان» ليس لأنه لا يرى أن هناك حقوقاً يستوجب الدفاع عنها، وحينما ينتقد «المنظمات النسوية»، لا يعني بأنه لا يعترف بحدوث انتهاكات صارخة لحقوق النساء وكذلك الأمر فيما يتعلق بالبيئة والصحة.. !! بل لأنه أدرك بعد تاريخٍ طويل مثقل بانتهاكات حقوق الإنسان كانت تلك المنظمّات أهم أدواتها بأن الوقت قد حان لبناء ملامح نظامٍ عالميٍ جديد تحمل فيه المنظمات والأسماء والكلمات معناها حقاً.