الحُكّام يأكلون الحصرم
يقول أهل اللغة: الميم في كلمة حصرم زائدة مأخوذة من «الحصر» وهو العجز عن النطق. والحصير الملك سُمي بذلك لامتناعه عن الأعين. وعامة الخلق لا يرون رعاتهم، ملوكاً كانوا أو أُمراء أو سلاطين أو أباطرة أو رؤساء دول أو قادة أحزاب، فالراعي يحصر حاله ضمن نطاق ضيق، فيسمى حصيرا.
قال تعالى: «وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا». وسميت جهنم حصيراً لمنعها من فيها من الخروج.
نادراً ما يخرج الحاكم، في العصر الحديث، إلى الناس دون حرس وأمن، بل نراه محاصراً من كل جانب، وكأن بينه وبين الرعية ثأراً متروكاً. والسؤال ما الذي يمنع الحاكم من التحرك بحرية، بحيث ينزل إلى الشارع، ويقابل الناس، كيف نشأت هذه الجفوة بين الحاكم والمحكوم؟ وهل الحاكم المؤتمن على رقاب العباد يتصرف وفق أهواء السلطة، أم وفق مصالح الخلق الذين هو راعيهم والمسؤول أمامهم وأمام الله عن أحوالهم وأموالهم وأعراضهم وحياتهم؟ علماً أن الحاكم يستمد سلطته من الجماهير الغفيرة التي يحكمها، وهو ملزم بتحقيق رغباتها لا رغباته، وهو المسؤول عن معيشة رعاياه. بل وأكثر من ذلك قد يُسمى حاكم البلاد أجيراً، فقد روى «هادي العلوي» في دراسة له عن أبي العلاء المعري، أن «أبا مسلم الخولاني» دخل على خليفة أموي، فخاطبه بعبارة أيها الأجير، ولما استنكرها الخليفة وضح له: «نعم أنت أجير، استأجرك رب هذا الأغنام لرعايتها».
وإذا كان الحاكم أجيراً عند الناس فمن حقهم خلعه عندما يُخل بشروط العقد الذي أبرمه معهم. فقد أكد سقراط في معرض رده على أفلاطون: «إن أي رجل دولة مسؤول يستوجب القصاص منه والحكم عليه بالفعل؛ لأنه ترك القطيع البشري الذي يرعاه أكثر شراسة مما كان عليه حين تولى أمره».
وهناك قاعدة فكرية خطيرة ترجع إلى كونفشيوس وتوسع فيها أهل الفكر في الحضارة الإسلامية تقول:
إن أخلاق الناس تتبع سلوك الحاكم، فإن كان عادلاً مستقيماً عدلوا واستقاموا وإن جار وسرق، جاروا وسرقوا. يؤكد «أبو سليمان البُستي» في كتاب «العزلة» إن سبب فساد الحكام هو غياب النقد وما يلقاه من المدح والتملق من الحاشية والأدباء.
ويرجع الماوردي في كتابه «نصيحة الملوك» أسباب سقوط الحكام إلى سببين كبيرين هما الحكم الوراثي وغياب المعارضة، فالأول يعطي السلطة للوريث دون النظر إلى مؤهلاته فينتج عنه ظهور حكام ضعفاء عديمي الكفاءة، عاجزين عن إدامة سير الدولة في طريق الازدهار فيقع الضعف والانحلال في أوصالها. أما المعارضة فغيابها يترك الحاكم يتمادى في فرديته فتتراكم أخطاؤه إذ لا يجد من يكشفها له بل يطوقه المداحون من الحاشية والأدباء بهالات التبجيل والحكمة والعصمة، وبتصديقه لهم يصبح خطؤه مأثرة وخطيئته إحساناً ولصوصيته إيثاراً واستبداده رحمة. والحاكم، حسب الماوردي، يقع فريسة أخطائه وأهوائه التي تتفاقم فتضع دولته على حافة الانهيار. والماوردي هنا لا يرجع إلى فكر المعارضة وإنما يكتب للخبرة السياسية الخالصة.