محطّات الانتظار
وحده الصياد الذي يكون سجين قاربه وسط البحر، لا يملك سوى شباكه وصنارته، من يتعلم إدراك الفرق بين الانتظار والصبر. في الانتظار تركيزٌ للأفكار والمشاعر على المُنتظَر وتخيلٍ للحظة قدومه: لو كان الصيّاد ينتظر فقط أن يعلق السمك في شباكه وينشغل في تخيّل حركة الأسماك الصغيرة تحت صفحة الماء .
لكان على الأغلب دفع بنفسه نحو الماء بعد انقضاء الساعة الأولى مفضلّاً الغرق أو اختيار مهنة أخرى! ربما يعود الفضل للعبة الصبر في بقائه على قيد الحياة، لأنه يتعلم يوماً بعد آخر أن يطلق أفكاره ويحررها بعيداً عن القارب، تطير فوق البحر وتعبر الماضي والحاضر، تتنقل بين ذكرياته ومخاوفه وقراراته، وتأخذه لأماكن قصية أخرى قبل أن يعيدهُ اهتزاز الصنارة.
أنت تقف في الخارج أمام بابٍ مغلق منتظراً أن يُفتح لك، إلا أن الباب يبقى موصداً، فتبدأ بقرعه بنقرات خجولةٍ متباعدةٍ في البداية، ثم تتسارع بعد ذلك النقرات لتغدو ضربات صارخة لكن الخشب يبقى أصمّ، تستمر في قرع الباب وتوزيع الضربات هنا وهناك بعد أن أعماك الغضب حتى تنسى السبب الذي أردت من أجله الدخول في المقام الأول، تجلس هناك وتشعر بخوف مفاجئ من أن ينفتح ذلك الباب على حين غرة، كما لو أن أحدهم يقتحم عليك خلوتك بعد أن أصبحت أنت الآن من في الداخل.
في دمشق تتربع محطةُ الحجاز كصرح ضخم للانتظار، تتمطّى بجسدها الممتد على الطريق مختزلة جميع رموز الترقّب: بدءاً بزجاج الشبابيك الملّون ومروراً بالساعة الضخمة التي تُتوّج المبنى والقطار الحديدي الصغير الذي ينتظر نائماً في الخارج منذ عشرات السنين.
يكاد المرء إذا ما عبرها سريعاً يسمع آلاف الأمنيات والأفكار التي همسها وقلّبها المسافرون الذين عبروا المحطّة يوماً، كما لو أن أفكارهم حول الحبيبة ومواسم الحقول ورحلات الحج ظلّت عالقةً على جدران البهو الكبير وصفحات الدرج العريض بعد أن رحل أصحابها. تُرى ماذا تنتظر محطةُ الحجاز؟ وهل لمحطات السفر شؤونٌ معلقةٌ تترقب الحل؟ أم أنها محصّلة جميع الأفكار التي ترقبها عابروها يوماً؟
من حسن الحظ أن المحطّة انتظرت قليلاً بعد ولم تندثر كغيرها من ملامح المدينة القديمة: رفضت أن تكون مجرد محطة منسية تركها مسافروها، تراها تفتح بهوها الرحب ليصبح معرض كتابٍ أو صور، أو تكتفي بمجرد الوقوف هناك كل يوم بالموعد ذاته دون أن يكون ذلك انتظاراً يائساً أو خائباً وإنما هدوء حكيم تمتلكه فقط تلك الأبنية التاريخية التي مرّ التاريخ بجانبها وتعاقبت عليها الأجيال، كما لو أنها تراقب اليوم بصبر الجدّات وبصيرتهم أحفادها الجدد، التائهين والمسافرين دائماً، تقترح عليهم وجهات لرحلتهم- كما تفعل المحطّات عادة- أو تمنحهم بضع دقائق من السكينة قبل أن يغوصوا من جديد في ازدحام المدينة