«البؤساء» يمرّون بيننا..
يندر أن تقرأ رواية تجبرك على تدوين ملاحظات أو اقتباسات، ذلك النوع من الروايات الذي يشعرك بأنك قبضت على الحقيقة متلبسة بممارسة الفعل الروائي، ولا تملك أمام دهشتك واحتفالك بالحقيقة إلا أن تسجلها جانباً وبودٍ عالٍ وامتنان تجاه الكاتب..
هذا بالضبط ما تفعله «البؤساء»، فهي من ذلك النوع النادر الذي يحتفظ ليس بألقه وراهنيته فقط، رغم مرور أكثر من قرن على إنتاجها، ولكنه يحتفظ أيضاً بقدرته على قراءة المستقبل بطريقة مدهشة.. ويرجع ذلك في جوهره إلى أن عظماء بوزن هوغو يتلمسون في كتاباتهم جوهر الحقيقة من حيث هي ثابتةً ومطلقة في حركتها وتغيرها! فإن: «الغد يقوم بعمله على نحو لا يقاوَم، وهو يقوم به منذ اليوم. وهو يبلغ غاياته، أبداً، بوسائل غير متوقعة» هكذا يرى هوغو الأمور..
وينثر رؤاه على صفحات ملحمته، فيعيد قراءة الثورة الفرنسية وما تلاها من أحداث ليصل إلى استنتاج هام حول اشتراك آل بوروبون العائلة الملكية في فرنسا في إخماد ثورة شعبية في مدريد عام 1823، وذلك مساندة لفرع عائلتهم الحاكم في إسبانيا أيضاً فيقول: «فيما يتصل بآل بوربون، كانت الحرب وبالاً عليهم. لقد اعتبروها نجاحاً. إنهم لم يروا قط أي خطر يكمن في محاولة قتل فكرة بأمر عسكريّ» ويكمل: «لقد وقعوا في هذه الغلطة الرهيبة وهي أنهم توهموا أن خضوع الجندي يعني موافقة الأمة. وهذا الوهم يهدم العروش.» ويتابع في قراءة تتجه من العام إلى الأكثر خصوصية وعمقاً فيقول: «باستثناء حروب التحرير، تعمل الجيوش كل ما تعمله من طريق الإكراه»..! وربما يفسر هذا القول حقائق نعيشها اليوم تشبه تلك الحقائق التي عايشها هوغو لتعيد التأكيد على أن «حقائق الحياة لا تسمح لنفسها بأن تنسى»..
وفي مكان آخر من «البؤساء»، يصف هوجو الجو العام في فرنسا قبيل ثورة تموز 1830 وقدرة الفعل الثوري العجيبة على تطوير الناس وإطلاق مكنوناتهم الدفينة.. «كان التوتر الكهربائي قوياً إلى درجة جعلت أول عابر سبيل يضيء في بعض الأحيان، على الرغم من أنه قد يكون نكرة من النكرات».
حين توقفت الثورة الفرنسية مؤقتاً عام 1815 بعد معركة واترلو، كانت قطعت أشواطاً متتالية مع ميرابو ثم روبسبير ثم نابليون لتعود بعد ذلك ملكية آل بوربون لتطيح بالجمهورية وبالإمبراطورية، مع ذلك فإن هوغو لم ير ذلك السكون أو التوقف المؤقت الذي استمر حتى 1830 إلا من زاوية محددة.. «الوقوف هو استعادة القوى. إنه السكون المسلح اليقظ. إنه الأمر الواقع الذي يقيم أرصاداً ورقباء ويلزم جانب الحذر. الوقوف يفترض نشوب المعركة أمس، ونشوبها غداً»..
«إن تجاعيد القرون لا ترتجل ارتجالاً» وربما لهذا السبب فإن تجاعيد «البؤساء» وفتوتها في آن معاً لم ترتجل ارتجالاً، ولكنها كانت تكثيفاً لتاريخ يحث السير إلى الأمام أبداً، ولا تعيقه قوة إلا ويكسرها..