مسرح التسييس
«حوارٌ بين مساحتين. الأولى هي: العرض المسرحي الذي تقدّمه جماعة تريد أن تتواصل مع الجمهور وتحاوره. والثانية هي: جمهور الصالة الذي تنعكس فيه كل ظواهر الواقع ومشكلاته (...) إني أحلم بمسرحٍ تمتلئ فيه المساحتان. عرضٌ تشترك فيه الصالة عبر حوارٍ مرتجل وغني، يؤدي في النهاية إلى هذا الإحساس العميق بجماعيّتنا وبطبيعة قدرنا ووحدته». *(سعد الله ونوس: مقدمة مسرحية «الفيل يا ملك الزمان»).
عندما كتب ونوس هذه المقدمة في ربيع 1969، شارحاً فيها باقتضاب رؤيته لـ«مسرح التسييس» الذي دعا إليه، ربما كان مبرراً للكاتب آنذاك – أو مفهوماً على الأقل_ لو أنه ترك موجة اليأس تنسلُّ إلى رؤاه الفكرية المسرحية، في ذلك الوقت الذي خفتت فيه كثيراً حقبة المدّ القومي التي أطلقتها الوحدة السورية- المصرية في المجتمع العربي، لا سيما بعد هزيمة 1967 التي أنتجت شعوراً جمعياً عاماً بالإحباط واليأس وانسداد الأفق.
غير أن خيار ونوس لم يكن كذلك، فهو_ وإن كانت أعماله المسرحية قد تأثرت دون شك بمرحلة تراجع الحركة الثورية العالمية، وحركات التحرر الوطني في المنطقة، وصولاً إلى تفكك الاتحاد السوفييتي في عقد التسعينيات_ إلّا أن هذه المرحلة بكل تعقيداتها دفعت ونوس لا إلى التأثر السلبي والانكفاء نحو العزلة الفردية، كما حدث بالنسبة للكثيرين من الفنانين، إنما دفعته إلى اتخاذ خطوة نحو الأمام في التنظير لمسرح التسييس.
طرح ونوس مسألة «مسرح التسييس» هذه كخطوة أساسية في سياق عودة المسرح للقيام بوظيفته التي حددها، بأن: «يعي الصراعات الدائرة حوله، وأن يوضح هذه الصراعات، ويكشفها، ويحدد طبيعتها. أي: أن يعلم الجمهور، ويعكس له أوضاعه بعد أن يحللها ويضيء خفاياها، وعليه أن يحفز الناس على العمل، أي: أن يحثهم على أن يباشروا مهمة تغيير قدرهم الراهن... إنه المسرح الذي يشحن بدل أن يفرّغ» (سعد الله ونوس: بيانات لمسرح عربي جديد_ 1970).
في هذه المرحلة، لم يواجه ونوس فحسب الاستبداد السياسي للسلطات التي منعت سيناريو فيلم «تل العرب» المكتوب في عام 1970، وعادت لتوقف في العام التالي مسرحية «مغامرة رأس المملوك جابر» في ليلة الافتتاح، بل تصدى كذلك لبواكير الطروحات المسرحية التي وقفت في وجه مشروع «مسرح التسييس»، منتقدة ونوس تحديداً في الحد الفاصل بينه وبين «المسرح المفرّغ من أي مضمون»، وهي: أنه «كثيراً ما تكون الشخصية في أعماله معبرة عن حالة أو طبقة أو شريحة اجتماعية، لا تعبيراً عن الفرد بخصوصيته وفرادته». ورغم ذلك، قطع مشروع ونوس المسرحي شوطاً كبيراً نحو الأمام، فاتحاً معه مساحات تجريبية واسعة في المسرح السوري استمرت أعواماً عدة بعيد رحيله في الخامس عشر من أيار لعام 1997.
وفي سياق التنظير لمسرح التسييس، قدّم ونوس لاحقاً إجابة وافية عن هذه المسألة في حوارٍ مع نبيل الحفار، أكد فيه: «يتحدد مفهوم التسييس من زاويتين متكاملتين. الأولى: فكرية وتعني: أننا نطرح المشكلة السياسية من خلال قوانينها العميقة وعلاقاتها المترابطة والمتشابكة داخل بنية المجتمع الاقتصادية والسياسية، وأننا نحاول في الوقت نفسه استشفاف أفقٍ تقدمي لحل هذه المشاكل. إذاً: بالتسييس أردت أن أمضي خطوة أعمق في تعريف المسرح السياسي. إنه المسرح الذي يحمل مضموناً سياسياً تقدمياً. ومن نافل القول: إن الطبقات الفعلية التي تحتاج إلى التسييس هي الطبقات الشعبية لأن الطبقة الحاكمة مسيسة، سواء كانت الحاكمة بمعنى السيطرة على أدوات السلطة، أو الحاكمة بمعنى السيطرة على وسائل الإنتاج الاقتصادي في البلد. إن الطبقات التي يتوجه إليها مسرح التسييس، هي: الطبقات الشعبية التي تتواطأ عليها القوى الحاكمة كي تظل جاهلة وغير مسيسة. الطبقات التي يؤمل أن تكون ذات يوم بطلة الثورة والتغيير. ومن هنا، كان التسييس محاولة لإضفاء خيار تقدمي على المسرح السياسي. أما الزاوية الثانية في مفهوم التسييس، فهي: تلك التي تهتم بالجانب الجمالي. إن مسرحاً يريد أن يكون سياسياً تقدمياً يتجه إلى جمهور محدد في هذا المجتمع، جمهور نحن نعلم سلفاً أن وعيه مُستَلَب، وأن ذائقته مخرَّبة، وأن وسائله التعبيرية تُزيَّف، وأن ثقافته الشعبية تُسلب ويُعاد توظيفها في أعمال سلطوية تعيد إنتاج الاستلاب والتخلف. إن هذا المسرح الذي يواجه، مثل هذا الجمهور، لا بد له من البحث عن أشكال اتصال جديدة ومبتكرة لا يوفرها دائماً التراث الموجود في المسرح العالمي أو العربي، حتى ولو كان هذا المسرح يحمل مضموناً سياسياً تقدمياً».