«كان في تلات بنات بيغزلوا وبياكلوا»
لم اعد أذكر من حكايات جدتي التي كنت أسمعها في سن مبكرة، إلا تلك الأجواء السحرية الممتزجة بالواقع، حتى أنني عندما تعرفت إلى كتابات غابرييل غارسيا ماركيز لاحقاً، أصبح يعني لي الكثير لأنه وفي اللاشعور كان يذكرني بحكايات جدتي،
لكن جملة واحدة كانت جدتي تبتدأ فيها الحكاية ما زالت محفورة في ذاكرتي «كان في تلات بنات بيغزلوا وبياكلوا»، لكن باقي الحكاية لم يعلق منها شيء في الذاكرة ربما لأن تينك الفتيات الثلاث اللواتي كن يغزلن ويأكلن، هن من لحم ودم، ولم يكن واقعهن السحري الذي قصته جدتي في الحكاية إلا انعكاساً لعملها في الغزل هي وأخواتها وأمها وخالاتها وكنائنها وكل نساء حارتها (الشاغور) اللواتي كن عاملات حقيقيات في المنزل بأجر حقيقي، كانت روح العاملة الحقيقية هي ما نقلته جدتي بتلك الجملة، وفكرة شرف العمل للمرأة جزءاً مما بثته في استعابتها لفلانة لأنها «تنبلة» ولا تريد أن تغزل، وكانت نساء الحارة يغزلن الحرير بشكل رئيسي لمعامل الجوارب في دمشق، إلى أن جاءت الحرب العالمية الثانية وتحول غالبيتهن من غزل الحرير إلى غزل الصوف من أجل صنع بذلات الجوخ للعسكر الإنكليزي، وكانت معظم النساء تعملن بمقدار خمسة قروش(فرنك) من الحرير أو الصوف أسبوعياً، إلا أن جدتي كانت تعمل بمقدار سبعة قروش ونصف (فرنك ونص)، لأن والدتها كانت تلتمسها لأن وضعها المادي كان أصعب من غيرها من الفتيات، وبقيت جدتي حتى آخر أيامها تبث روح شرف العمل النسائي تلك التي كانت سائدة منذ بداية القرن الماضي كما عرفت هي على الأقل.