بين قوسين: انقراض القارئ العربي
في باب الهوايات ، كنّا نقرأ في صفحات التعارف عن هواية رائجة هي «المطالعة»، لكن هذه الهواية انقرضت بالتدريج لمصلحة الغناء وجمع العملات!
يقبع الكتاب حزيناً في واجهات ما تبقى من المكتبات، بعد أن تحوّل معظمها إلى دكاكين للأحذية والموبايلات والوجبات السريعة. لقد اختفى القارئ العربي، وفي حال وجوده فإنه يذهب إلى الكتب المسليّة التي لا تتطلب وجع دماغ. ولكن لنفترض أن هناك قارئاً جديّاً، وأراد أن يقتحم رفوف المكتبة، فمن أين سيبدأ؟ سيجد نفسه محاصراً بقائمة الكتب الأكثر رواجاً، من باولو كويلو إلى دان براون، وفي أحسن الأحوال ميلان كونديرا، وإيزابيل الليندي، وأحلام مستغانمي. بمعنى آخر فإن كل أمهات الكتب باتت خارج اهتماماته. قارئ الأمس كان لديه فسحة من الوقت كي يقرأ بشكل منهجي خزائن التراث العربي والعالمي، من الجاحظ وأبي حيّان التوحيدي والشعر الجاهلي إلى جبران خليل جبران والمنفلوطي و نجيب محفوظ. كان على ذلك القارئ أن يتجوّل بين «أوديسة هوميروس»، و«الحرب والسلام» لتولستوي، وأعمال ديستويفسكي وتشيخوف. وأن يقرأ كتب الماركسية، ثم الوجودية، وكلاسيكيات الأدب العالمي من شكسبير وبلزاك وديكنز إلى همنغواي وجاك لندن. لنقل أن قارئ اليوم قد بدأ القراءة من عتبة أخرى، وضعت كل تلك الكلاسيكيات في طي النسيان، فمن لديه الشجاعة اليوم أن يقرأ «الحرب والسلام»، وحتى«آنا كارنينا» لتولستوي، أو«لعبة الكريات الزجاجية» لهيرمان هيسه؟ نحن إذاً، حيال معضلة معرفية ستلقي بظلالها الثقيلة بعد عقد أو عقدين على الأبعد، تتلخص بمحو جزء كبير من تراث الإنسانية الإبداعي، من ذاكرة قارئ كسول، لا يقرأ إلا ما هو متاح أمامه، عدا طبعات تجارية مختزلة من تلك العناوين التي شكّلت الخزّان المعرفي للأسلاف. نستثني هنا القارئ المتخصص، ذلك الذي سوف يحتاج إلى هذه الكتب بقصد البحث أو الدراسة. هناك قراء بدؤوا شغف القراءة برواية باولو كويلو «الخيميائي»، ثم راحوا يفتشون عن أعماله، معتبرين هذه الرواية مفتاحهم إلى عالم القراءة، ورغم جمال هذه الرواية وروحانيتها إلا أنه لم يخطر في بال أحدهم بأن جوهر هذه الرواية موجود في إحدى حكايات «ألف ليلة وليلة»، وهذا دليل إضافي إلى أن معظم قراء العربية، لم يطّلع على أحد أركان السرد العربي وهو كتاب «ألف ليلة وليلة» الذي يُفترض أن يكون اللبنة الأساسية للقراءة بالعربية. وإذا كانت بعض العناوين المؤسسة قد غابت عن أذهان القرّاء الجدد بسبب من سوء وضيق أفق المناهج التعليمية في المدارس والجامعات، فإن الكارثة تزداد حجماً بما يخص الأدباء المعاصرين. في استفتاء أجرته صحيفة محلية سورية بين طلاب كلية الآداب في جامعة دمشق، لم يستطع أحد ممن أجاب على الاستفتاء أن يعدد أسماء خمسة أدباء عرب، وذهب بعضهم إلى إرفاق صفة «ملاكم» إلى جانب محمد الماغوط، وصفة موسيقي إلى جانب اسم سعد الله ونوس !
يتكئ بعضهم إلى أن قارئ اليوم أدار ظهره للكتاب الورقي وانخرط في قراءة الكتاب الالكتروني، لكن هذه النسبة ضئيلة للغاية، خصوصاً أن محتوى المواقع الالكترونية العربية يتسم بالعشوائية والمبادرات الفردية والقرصنة، بالمقارنة مع القارئ الأوروبي، وتالياً، لا يشكّل هذا النوع من القراء بديلاً لغياب قارئ الكتاب الورقي. باقتحام «الفيس بوك» حياتنا اليومية، اكتفى متصفحوه بعبارة مقتبسة من هنا، وجملة من هناك ، هي حصتهم من القراءة.