اريخ البلاد كما ترويه ساحة المرجة
لطالما امتلكت - أنا الفتاة القادمة من محافظة صغيرة إلى العاصمة دمشق- مشاعر متناقضة إزاء ساحة المرجة المشهورة: كان يزعجني دوماً إقحامها وغيرها من الرموز النمطية الأخرى كالياسمين الشامي ونهر بردى ونزار قباني في كل إعلانٍ ترويجي أو فيلم وثائقي عن دمشق، كما لو أنه رفضٌ للاعتراف بأن نهر بردى اليوم أشبه بمستنقعٍ محاطٍ بالإسمنت وأن الياسمين لا يستطيع القيام بمهمةٍ صعبة كإخفاء خليط الروائح القذرة الذي تقذفه المدينة كل يوم.
الساحة في المقابل كانت تتركني أمام تناقضٍ أكبر، لأن الغوص في تاريخها يقدّم مبررات كافية لفهم السبب وراء جعلها أيقونة دمشقية، إلا أن ذاك التاريخ بدا لسببٍ ما بعيداً، دفينَ كمّ كبير من التفاصيل والحقائق العصرية التي رسمت للساحة صورةً مغايرةً تماماً.
أتذكّر أنني وفي المرات الأولى لمروري بها، كنت أتخيل أنني سأشعر برهبة اختبار التمثيل الحي لدرس التاريخ الذي شغل خيالي وأنا طفلة: صورة إعدام شهداء 6 أيار من جمال باشا السّفاح الذي بدا لي حينها التجسيد الحي لشخصية الشرير والمجرم والمحتل بكلمة «السفاح» التي كانت تذيل اسمه. إلا أنني شعرت بالخيبة عندما وقفت هناك ولم أستطع بناء صلةٍ مع المكان بوصفه الحاضن لتلك الحادثة التاريخية أو غيرها، بدت الساحة لي مكاناً مزدحماً متسخاً وموحشاً، أعبره مسرعةً دون أن أتأمل معالمه.
لكن الأمر الذي أغفلته الأفلام الوثائقية والإعلانات السياحية حينها، أن الساحة- وإلى جانب اشتهارها بكونها مكاناً لتجمع المترجمين المحلفين وبعض أفضل محلات الحلويات الدمشقية- كانت قد تحولت- ضمن خطة ممنهجة للتلاعب بالرموز والإشارات وتشويه الوعي الجمعي للناس- إلى أشهر أماكن تجارة الدعارة في العاصمة، وأن المباني التي كانت يوماً تاريخية والفنادق الأولى من نوعها في البلاد بعد انتهاء عصر الخانات تحولت إلى أخرى رخيصة موبوءة، كان ذلك أشبه بسرٍ قذر يعلمه جميع السوريين ويتبادلون النكات والتعليقات حوله «تحت الهواء»، أما البث المباشر فكان دوماً «زينوا المرجة والمرجة لينا ..شامنا فرجة وهي مزينة».
لا أعلم حقاً ما حدث حتى عادت الساحة لتلفت انتباهي، لكنني وعندما ارتكبت حماقة البحث في غوغل عن تاريخها، وجدت نفسي أمام كمٍ كبير من الصور، جعل رأسي يدور، وقعت على كنزٍ من الصور المجسدة لتاريخ الساحة من عام 1880 وحتى الآن، يمكن للمرء تلمس الزمن يمشي سريعاً من صورةٍ إلى أخرى بمجرد مراقبة التغيرات التي تطرأ على الكادر: في البداية قوافل الجمال، ثم عربات الخيل، ثم سيارات النقل الصغيرة لتليها الحافلات الكهربائية، تتغير الأزياء أيضاً كما الحقب التاريخية، وتنتقل اللقطات من الأسود والأبيض إلى الملّون. كما لو أن الساحة كانت مسرحاً حياً كبيراً لتاريخ البلاد، وهو تعبيرٌ ابتعد عن المجاز في القصة التاريخية التي تتحدث عن أوامر جمال باشا السفاح بأشعال جميع أنوار الساحة في الساعة الثالثة ليلاً لكي يشاهد عرض الإعدام الرهيب من مبنى العابد ، أو رفع علم الثورة العربية الكبرى على مبنى البلدية في الساحة، وصورة اصطفاف الدبابات الفرنسية إبان الاحتلال الفرنسي.
إن أردت إضافة صور إلى الأرشيف الضخم الخاص بتأريخ الساحة سأضيف صورتين: الأولى صورةٌ من أوائل التظاهرات التي اندلعت في العاصمة دمشق، تجمّع فيها المتظاهرون حول النصب التذكاري وهم يهتفون. لم تكن تلك الصورة الأولى أو الوحيدة، وبعدها أُغرقت البلاد بكمّ هائل من الصور جعلها تفقد فرادتها، إلا أنها جسّدت إحدى نقاط التحول التاريخية، كما لو أن مستقبل البلاد يلتف حول العمود الأثري القديم.
أما الصورة الثانية فالتقطتها عيناي بعد مرور ما يقارب العامين على اندلاع الحركة الاحتجاجية في البلاد، كان صباح أحد أيام الجمعة بعدما توقفت التظاهرات وكفّ البشر عن الخروج من منازلهم، بدت الساحة الخالية جميلةً واضحة المعالم، وفي وسطها تماماً -حول النصب الحجري- عدد من الأطفال المشرّدين، كان المكان الخاوي يضجّ بصراخهم وضحكاتهم وهم الذين رسموا بأصابع الطبشور ألعاب (الخوط)على الأرض، كانوا هم المالكين الوحيدين للمكان، يعيشون هناك وينامون ليلاً على مقاعد الساحة ثم يتسولون طوال النهار في محيطها. بدوا خارج الزمن لأنهم الوحيدون الذين لم يكونوا خائفين إذ لا وقت لديهم لذلك ولا شيء كي يخسروه.