مطربو حلب من جحيم الحرب إلى دار الأوبرا السورية
سامر محمد إسماعيل سامر محمد إسماعيل

مطربو حلب من جحيم الحرب إلى دار الأوبرا السورية

تتوالى الأمسيات الموسيقية والغنائية الشعرية التي تحتفي بمدينة حلب على مسارح دار الأوبرا السورية؛ ففي الرابع والعشرين من شباط الماضي قدّمت أوبرا دمشق أمسية بعنوان « قدود حلبية» مع المطرب صفوان العابد وفرقته؛ لتعقبها منذ أيام قليلة أمسية موشحات وشعر وقصة عن عاصمة الشمال السوري؛ شارك فيها كل من المطرب مصطفى هلال والشاعرة عبير الديب والقاص عبد القادر بدور.

استعادة التراث الحلبي عبر أمسيات الأوبرا، جاءت في وقتٍ تشهد فيه عاصمة البلاد الاقتصادية مهرجانات مطوّلة من الدم والاقتتال المتواصل؛ وسقوطا يوميا لضحايا من المدنيين جراء إمطار القوى المتشددة لمدينة الموشحات بعشرات قذائف الهاون والصواريخ ومدافع جهنم؛ مخلفةً وراءها عشرات الضحايا من الأطفال والنساء والشيوخ والرجال؛ في وقتٍ بات الغناء كبيرة الكبائر في عُرف قوى تكفيرية تسيطر على أجزاء كبيرة من أحياء المدينة. «تحية من قلبي إلى حلب».. جملة قالها الفنان والمطرب صفوان العابد ثم ركع على مسرح الأوبرا السورية؛ مقبّلاً الخشبة بعيون دامعة أمام عاصفة من تصفيق الجمهور الذي حضر حفله في القاعة الرئيسية لدار الأوبرا؛ مؤدياً مع فرقته الموسيقية أبرز قدود وموشحات المدينة؛ متنقلاً بين مقامات البيات والسيكا والنهاوند بمهارة صوتية لافتة عانق من خلالها (العابد) أشجار الشام ومآذنها.
الحفلات التي أحيتها كل من فرق «صفوان العابد» و «ميادة بسيليس» و «سمير كويفاتي» و «دهب لعمر سرميني» إضافةً لفرقة «شادي جميل» كانت استثنائية من جهة شمولها لمعجم الطرب الحلبي الأصيل؛ حيث استمع فيها الجمهور إلى روائع «السماعي من مقام النهاوند» للشيخ علي الدرويش أبرز شيوخ الطرب في المدينة؛ إضافةً إلى وصلة من موشحات الشيخ عمر البطش على مقام النهاوند؛ لتحضر هنا عراقة شيوخ الطرب في أداء موشحات على نحو.. «سبحان من صوّر حسنك» إضافةً لموشحات من قبيل: «قلتُ لما غاب عني» و «قم يا نديمي»؛ مستعيدين بذلك مجد الأغنية الحلبية وشهرتها العالمية في صياغة القوالب اللحنية المصقولة ذات العُرب المقامية الصعبة.
الفرق الحلبية تتابع اليوم أداءها الجارح لوصلة قدود ضمت خلاصة الشجن الحلبي؛ إذ برع مطربون وموسيقيون وشعراء حلبيون؛ بتطريز جُملٍ غنائية مزركشة بأصواتهم لموشحاتٍ وطقطوقات باتت اليوم تنز دماً؛ متكئين في ذلك على معرفتهم الواسعة ودِربتهم في تنغيم الكلام والقصائد والأدوار وتعشيقها؛ ضمن القالب اللحني الملائم لهذه السبائك الصوتية الفخمة.

الذروة في الأداء الجماعي لموسيقيي ومطربي حلب كانت مع وصلات أندلسية من مقام السيكا؛ استطاع عبرها هؤلاء المغنون التلوين صوتياً على أيقونات الطرب الأندلسي؛ مستعيدين نوادر الغناء في العصور العربية التي ازدهرت في قصر الحمراء وغرناطة.
عبقرية موسيقية لم يُنظر إليها كما يجب إلا في زمن الحرب؛ بل حتى معهد صباح فخري التابع لوزارة الثقافة لم يسلم من صراع أمراء الحرب وزعمائها؛ حيث تعرض مؤخراً لقذائف الموت في حي الجميلية؛ إلا أن الفرق الحلبية التي استطاعت مؤخراً انتزاع مساحتها على مسارح العاصمة في ازدياد متواصل؛ فالمدينة المشهورة بزوايا «سلاطين الطرب» وحلقات الاذكار والغناء الصوفي فقدت أمسياتها التي لطالما كانت تفتتح بلازمة: «يا ليل يا عين» لتستهل اليوم حفلاتها الدمشقية بآهات ومواويل سبعاوية منكسرة عن مدينة أرهقتها نوبات التهجير الجماعية، تاركة للجوع والموت العبثي والعطش أن يردد موشحاته القاتلة.
أعمال صبري مدلل والشيخ بكري الكردي ومثلها قدود ووصلات عبد القادر حجار وعبد الرحمن مدلل ونديم درويش وصباح فخري تركت غصاتها في حناجر مطربيها الملتجئين إلى مسارح دمشق بدعم من وزارة الثقافة السورية؛ وذلك بعد هدم التكفيريين لمعظم الزوايا الصوفية والغناء الروحي في المدينة المنكوبة.
مسارح حلب التي خفت ألقها أيضاً في سنوات الكارثة اتكأت على شقيقاتها في مسارح العاصمة؛ فمسرحها الحلبي الشهير «دار الكتب الوطنية» طالته الحرب هو الآخر؛ دون أن تبقي المجموعات المسلحة التي دأبت على سرقة معامل الشهباء على أجمل ذكريات هذا المسرح العريق الذي قدمت علــــيه عروضها أعرق الفرق الحلبية والشامية والمصرية منذ أواسط القرن التاسع عشر.
يرزح اليوم عشرات الموسيقيين والمنشدين الصوفيين تحت رحمة التكفير للغناء، وتحريم الموسيقى؛ ومصادرة أي ملمح من ملامح الحياة العامة لمدينة القلعة التي كان يقام على مسرحها الشهير مهرجان الأغنية السورية؛ إذ يعتبر الغناء والموسيقى أحد أبرز تجليات مدينة سيف الدولة الحضارية ومساهمتها في إغناء التراث الثقافي العالمي.
جملة اختصرها الفنان التشكيلي سعد يكن على صفحته الشخصية في الفايس بوك مناشداً وطنه: «أنقذوا حلب».

 

المصدر: السفير