في ذكرى رحيل هادي العلوي المثقف الكوني لا يترجّل عن ركابه
في صباح يوم الأحد26/9/ 1998 أفلتت قدم هادي العلوي البغدادي من ركاب الحياة, وانطلق الفرس وحيداً يجول سهوب آسيا متلمساً بين الخلق مشاعية قادمة. بموت مفكرنا، يشعر المرء بأنه فقد شـيئاً من نفسه، مع أنه لا شيء يحمل إلينا المواساة إلا أننا لن ننساه مدى الحياة لأنه صرخة مستديمة في وجه الظلم والعبودية.
لم يحب العلوي الشهرة, بل كان يمقتها ويصنفها من خساسات المثقفين، ومع ذلك وصل إلينا بعلمه وفضله، أحببناه وتلهفنا لقراءة أي بحث يكتبه، لأنه كان باحثاً فذاً. وعندما جاء إلى معرة النعمان كي يجاور فيلسوف المعرة ويكتب عنه دراسة لعلها واحدة من أجمل وأوضح ما كتب عن أبي العلاء المعري، وقد صدرت في كتاب (المنتخب من اللزوميات نقد الدولة والدين والناس). إن جهل الإنسان لهذا الباحث الجليل لا يغتفر إذا كان لديه أدنى اهتمام بعلم اللغة والفلسفة والتاريخ والتراث الإسلامي والصيني. فمن يكون هذا الفارس؟
حس طبقي شاب..
ولد هادي العلوي في بغداد سنة 1932 ونشأ في الكرادة الشرقية, وهي من ضواحي بغداد الريفية يصدق على أهلها وصف فريدريك أنجلس: فلاحون مستقرون لكنهم في حالة انحطاط. نهل من مكتبة جده علومه الأولى. حفظ القرآن ونهج البلاغة. ومضى في قراءة مصادر الفقه والتفسير والتاريخ.
أنهى دراسته الثانوية سنة 1950 وتخرج من كلية التجارة والاقتصاد بتفوق, وزاغ عن مصافحة جلالته حين وزع الشهادات على المتفوقين، لأنه اعتقد بأن جزءاً غير يسير من مأساة الشعب سواء في جانبها الوطني أو الاقتصادي أو الاجتماعي تعود إلى تخاذل الأسرة المالكة وخضوعها لإرادة الأجنبي.
درس التراث العربي الإسلامي بعمق، وساح في كل أطرافه مكاناً وزماناً، دخل التراث عن طريق الدين, فقد قرأه بحكم نزعته المتدينة في صباه والموروثة عن جده السيد سلمان. وانتقل إلى الماركسية من خلال التراث نفسه. ولم يتخل عن التراث لأنه صار ماركسياً، كما يفعل كثيرون. إن الطريقة المثلى للتطور الفكري عند الإنسان كما اكتشفها هادي العلوي بتجربته الشخصية ومن قراءاته هي أن يكون تداخلياً وليس ارتدادياً، وذلك حين ينطلق من نقد المقروء بالاستناد إلى معرفة فلسفية.
كان وضعه الطبقي في العائلة، واستمراره في القراءة واكتشافه المزيد من النقاط الحساسة التي صدمت وعيه الطبقي ونزعة الشك والبحث عنده وعدم خضوعه للجو السائد، السبب في انتقاله إلى صفوف الماركسيين.. فبدأ بنشر بحوثه بعد أن استكمل أدوات المنهج الماركسي، وكان أول بحث قد نشر له في مجلة المثقف سنة 1960، وكان البحث عن أبي حيان التوحيدي وكتابه مثالب الوزيرين.
رحلة إلى الشرق..
من منجزات هادي العلوي اكتشافه الفلسفة الصينية وشرحها لأهل الشرق العربي. فقد أقبل عليها حتى استوفى الاطلاع على الخطوط العامة للمدارس الفلسفية. ثم تعرف على أهلها عن كثب. يقول في فاتحة كتابه المستطرف الصيني الذي أودع فيه خلاصة ما عرفه عنها (حين تأهبت للرحيل إلى الصين.. بدأت تتكشف لي معالم حضارة مجهولة عندي كما هي عند آخرين، ممن استهلكتهم معرفتهم للجار الأوربي فذهلتهم عن أنفسهم. وكان اكتشافي حذراً متهجساً، لأن الصين لا تفتح نفسها للأجنبي. وكان اضطراري إلى الاشتغال لكسب الرزق يأخذ مني مواعيد اللقاء مع أهل الصين، فلا يبقى منها غير الهنيهات).
وكتابه هذا من نفس طراز كتابه (المستطرف الجديد) الذي ضمنه خلاصة ما عرف عن تراثنا العربي، مزاحماً حسين مروة - رائده الأكبر - في سيرورة إنهاض تحتاجها أمة غافلة بتنبيهها إلى إرثها الحضاري، الذي كان سيعصمها من الذل لو لم تنقطع عنه.
مدارات صوفية..
ألف هادي العلوي في سنوات عمره الأخيرة كتابه الملحمي مدارات صوفية ضمنه تراث الثورة المشاعية في الشرق. يقول في تقديم هذا الكتاب (جاء في مجمله لتعزيز الوجدان المشاعي عند أجيالنا الجديدة لمساعدتهم في الخروج من حجاب العقيدة إلى فضاء الوجدان، ولزعزعة المألوفات التي تعلموها من الثقافة المترجمة. فلكي يكون الإنسان مشاعياً يجب أن يكون له قلب مشاعي.. وأسوأ غرارات المشاعيين هم المثقفون).
المشاعية موقف وجداني مؤنس بحب الناس وكره الدولة والأغنياء وأهل الدين عنده. وربما تصدم مثل هذه الأفكار أهل الثقافة المترجمة. وقد سعى في كل ما كتب لتأصيل ثقافة شرقية خارجة عن دائرة الهيمنة ومستندة إلى المثقفية الشرقية المتماهية مع الجماهير. ومن هنا حديثه عن الثقافة الأمية، والمثقف الأمي، والمشاعي الأمي، والنبي الأمي، مع وجوب التميز بين الأمي والجاهل، فالجاهل قد يكون مثقفاً كبيراً، والأمي إذا نظرناه في غرارية الفرد العادي قد يكون أصح وعياً من المثقف الكبير, فالأمية لا ترادف الجهل بل قد تجد ترادفاً بين الجهل والثقافة. الأمي هو الفرد العادي، لا يقرأ ولا يكتب. والجاهل قد يقرأ ويكتب ويكون له نصيب من الثقافة، لكنه يسيء فهم حقائق الأشياء، ويفتقر إلى الوعي الاجتماعي والسياسي. ويصدر عن الجاهل المثقف من التصرفات والأفكار الضارة أكثر مما يصدر عن الأمي.
متصوف ماركسي
عمل هادي العلوي من خلال بحوثه وكتبه على كشف مآثر تاريخنا وخطاياه دون انحياز عقائدي مع الاستعداد لتقبل التفكير في الأضداد والنقائض في أي مسألة. إن العقيدة هي شر ما يملكه أهل العلم، وهي الرقيب الداخلي الذي لا يقل سوءاً عن الرقيب الرسمي.
والعقيدة هي المسؤولة عن تكوين الوجدان القمعي للأفراد. وهي وإن كانت مفيدة لتحريك الجمهور في منعطف تاريخي معين، يجب أن تبقى في منأى عن العقل الباحث لئلا تكون كما يقول الغزالي حجاباً يمنع من النظر إلى حقائق الأشياء. فمثلاً حين يفرق هادي العلوي البغدادي بين إسلام حي وإسلام ميت يرجع إلى التفريق بين إسلام الدين وإسلام الحضارة. فالإسلام كمصطلح تاريخي يشتمل العنصرين، وقد عاشا معاً فيما نسميه العصر الإسلامي، وهو عصر الحضارة الإسلامية ولقد تعايش النمطان من خلال الصراع واقتسما الساحات، وكان لكل منهما بصماته على مجمل السيرورة التاريخية لذلك العصر.
ذات مرة مالحه صديقه الراحل يوسف عبد القادر فقال: «أنت يا هادي، رحمك الله إذ أخرجك من الكرادة الشرقية، ولولا ذلك لكان طول عمامتك ذراعين ولحيتك ذراعاً». مع ذلك بقي هادي العلوي البغدادي ملتصقاً بمهده الريفي الذي عبر منه إلى سلك التصوف. فقد أبكاه منظر المتعوبين الجياع، وهكذا صار من أتباع ماركس الحكيم.