نواف أبو الهيجاء.. رحيل «فلسطيني جدًّا»
كان الأديب الفلسطيني نواف أبو الهيجاء يحضّر نفسه لتوقيع كتابه الجديد «فلسطيني جدًّا» الذي يسرد فيه سيرته الحياتية والأدبية.. غير أن الخاتمة التي لم يكتبها في آخر كتابه كتبها الرحيل المفاجئ أمس الأول في بيروت عن 73 عامًا. ولو علم لأضاف هذا الحدث الذي كان ينتظره، فهو كان شديد الحرص على أن يكون الكتاب ناقلًا للحقيقة والوقائع والسيرة، حتى أنه عندما أراد أن يضيف إلى كتابه معلومة حدثت في أواخر تشرين الثاني الماضي، إثر تخصيص منظمة التحرير له مرتبًا شهريًّا يُعِينُهُ على إكمال عمره من دون أي إهانة، تحمس لإضافة ذلك في كتاب سيرته، لكنه وجد أن الكتاب قد خرج من المطبعة.
وأي سيرة يمكن أن تكتب! لفلسطيني لاجئ هُجِّر من بلاده قسرًا وهو طفل، وراح يجوب العالم حاملًا بيته على ظهره، متمسكًا بوجدان مناضل، وحساسية أديب، ورهافة شاعر، وأفكار بقي مصرًّا فيها على حق العودة وتحرير كامل التراب الفلسطيني.
السيرة التي كتبها أبو الهيجاء كان قد سردها لي خلال جلسات عدة، عندما كان يتردد إلى مكاتبنا في جريدة «السفير»، بعدما اسْتَعَرَتِ الحرب في سوريا التي فزع إليها من حروب العراق، لتصبح بيروت ملجأه الأخير، ثم تحفظ بترابها طيره الذي يصدح بحلم العودة أبدًا. كان يأتي ويجلس ويحكي كمن يريد أن يُفْرِغ أحمالًا تثقل دماغه، أو كمن يجهد أن يصبّ عمره في فنجان القهوة الذي كان يشفه بهدوء، تمامًا مثلما كان يدخل ويحكي ويخرج بالهدوء نفسه. كان يختصر جلسته ويخرج قائلًا: «للحديث تتمة، فأنا أعرف طبيعة عملكم وثمن وقتكم، فطالما مارست هذه المهنة من قبل».
كانت حكايا راحلنا تجول في أفق الأحداث، مع الكثير من غيوم التأثر والحزن. وحدها جولات الكلام عن الحب كانت تُخرِج بسمته من عقالها، وما تبقى من العمر لم يكن يستحق غير تلك السخرية المرة المغلفة ببسمة صفراء. فالطفل الذي انتقل من قريته في قضاء حيفا إلى بغداد عام 1948 سقى الدرب دمعًا. وعندما تحرك إلى البصرة جنوبًا لم ينسَ اتجاه القدس، وبقي مصرًّا على انتمائه الفلسطيني، وذاك الذي خاض غمار العمل الصحافي والكتابة الأدبية لم ينسَ أيضًا أن يحتضن فلسطينه بكل مقالة أو قصة، بل في معظم ما أَلَّفَ، وكتبه كثيرة، روايات ومجموعات قصص ومسرحيات وسوى ذلك. وهو لم يكن «فلسطينيًّا جدًّا» في كتابه الأخير فقط، إنما كان كذلك في كل ما كتب وقرأ وفكّر وحكى.
لم ينتمِ أبو الهيجاء إلى فلسطينه بحمل علمٍ أو بتعصب لجهة أو حزب أو حركة. كان لكل فلسطين، يأبى أن يصنف أو يوضع في خانة غير خانة تحرير الأرض، في كل تجواله بين العراق والكويت والأردن والقاهرة والجزائر وليبيا والمغرب وبلدان عربية وغربية أخرى... في كل منافيه كان مسكونًا بفلسطين، يحمل رايتها ورائحة أرضها ومفاتيح بيوتها.
في أيامه الأخيرة كان ناشطًا على صفحته في «الفيسبوك». وكان يكتب بشكل يومي تقريبًا، ناشرًا مقالاته وأفكاره وهواجسه وفصول رواياته وقصائد له. وكان مضيئًا واضحًا، يكمل ببضعة أسطر يومية فصول السيرة التي لم ينشرها في كتاب... وها هو في آخر نص له كتبه في أول شباط الجاري يقول في مقطع شعري: «كل في جحره انزوى،/ والمقاعد مملوءة بالأجساد/ لا خطاب سوى همس الأزرار/ والعقل يفلي رأس الهاتف/ إن فارت على النار القهوة،/ لا مناص من الحراك، والبحث هو الدوار/ كل في عالم معزول له عن عالم/ من يشغل المقعد المجاور في الجحر/ واسع هو المكان لكنه مقفر (...)».
هي فصول العزلة والانكسار التي جناها عليه العجز والمرض والهزائم... لكنه بقي نموذجًا للمناضل الفلسطيني الذي بقي يتذكر البوصلة، ويحتضنها حتى الرمق الأخير.
المصدر: السفير