الثقافة والسلطة.. إشكالية مزمنة!
منذ عشرينيات القرن الماضي وحتى اليوم انتعش الفكر السياسي العربي، وأخذ الجدل يتنامى حول جملة من المواضيع لعل أبرز عناوينها هي «الإسلام السياسي» ودور «المثقف والسلطة» والعلاقة بينهما كانت بمثابة تحريك للمياه الراكدة.
الحالة الأولى، واثر إلغاء الخلافة العثمانية وتداعيات الحرب «العالمية الأولى» وتداعيات تقسيم البلدان العربية حسب اتفاقية «سايس بيكو» الشهيرة ، كانت تلك الأحداث قد هزت الفكر السياسي العربي واستمر المثقف العربي خلال ما يقارب القرن يدور حول نفسه ويفسر الظواهر والأحداث المتتالية حوله، كل بمفهومه وأيدلوجيته وقناعاته.
ولكننا في العشرية الثانية من الألفية الثالثة بعد نحو مئة عام من بداية النظام الإقليمي العربي بشكله الحالي نعيش تداعيات ماعُرف بثورات الربيع العربي التي حركت المياه الراكدة في الفكر العربي المشلول وأثاره أكثر من قضية فكرية كالإسلام السياسي والمثقف والسلطة والوعي الثوري ودور الايدولوجيا والعقيدة في التنمية السياسية ونحو ذلك.
ثمة علاقة ملتبسة بين المثقف والسلطة، وهي علاقة يحكمها الشك والريبة وعدم الثقة وأحياناً التعارض والتناقض. هذه الإشكالية نلاحظها في الصراع التاريخي بين المثقف والسلطة، التي تنعكس في كتابات المفكرين والأدباء والمثقفين منذ أقدم العصور، شكّلت فكرة «اليوتوبيا»، او «المدينة» الفاضلة منذ القدم، وغدت حلما راود الإنسان من أجل تحقيق الحرية، والعدالة، والسلام.
ولطالما داعب خيال الإنسان أمر إنشاء مدينة فاضلة يكون دور المثقف العالم العادل هو من يدير تلك الدولة، وقد وجدت لهذا المكان تجليات في الفكر الديني والسياسي والأدبي. وفي كل ذلك يقع تخيل عالم مواز للعالم الحقيقي تتحقق فيه المساواة، ولكن وقياس تلك الأحلام بالواقع فقد ايقن المثقف بأنه لا تتطابق أحلام المثقفين والمتنورين والعلماء في سلطة مثالية إلا في المدينة الفاضلة عند الفارابي وجمهورية أفلاطون عند فلاسفة الإغريق، واليوتيوبيا في الفكر السياسي الغربي.
وفي الأصل مهمة السلطة هي ضبط الأمور، وحتما فإن السلطة غير التسلط، وهي مواكبة سير الحياة، وإيقاع سير الحياة اليومية للإنسان الذي هو اجتماعي بطبعه فالعرب سباقون في علم الاجتماع، عندما فسر ابن خلدون علاقة الدولة بالمجتمع وبأن الممالك كالإنسان تشب وتكبر وتشيخ وتنهار، وآخر عهدها يحكمها أراذل الناس!
وللمثقف والعالم والمفكر رؤية لاشك في نمط الحياة وسيرورتها في جو من الحرية والعقلانية والمنطق، ومن هنا قد ينشأ تعارض بين المثقف والسلطة، بين الماء الذي يجري والسد الذي يحول من حرية جريانه، ولكن الحرية في الوقت نفسه ليست مطلقة لاشك، وقد تكون خطرة وتنزلق للفوضى عندما تخضع لأهواء بعض الحمقى من أنصاف المتعلمين.
ويأتي هنا دور السلطة التي قد تتحول لتسلط فتقتل الحرية وتوئد الإبداع تحت ذريعة تنظيم، وهذه إحدى إشكاليات علاقة المثقف بالسلطة، وفي المقابل لا يمكن أن نقول إن هناك طلاقا بين السلطة والثقافة أو السياسة والثقافة، فإذا انغمس المثقف في رغد السلطة فأنها مغرية ومريحة لاشك، ومن هنا يبدأ الامتحان الأصعب، وهذا ما نعانيه في مجتمعاتنا التي يتلقى فيها الفرد العادي الأمرين من النخب الثقافية التي ادْمنت السُلطة والتسلط.
والأخطر من كل هذا عندما تأتي سلطة الفكر والتسلط ولاسيما من تلك التي تحاكي الأنظمة »الثيوقراطية« وتحول كل الدولة لسلطة عقيدة الحاكم والسلطة الحاكمة والتدخل في كل تفاصيل حياة ومعاش المواطن باسم الدين أو المذهب.
ولعله من المفترض أن ندرك أنّ العلم سلطة، وأن الثقافة سلطة كذلك، فهما تماماً كالمال يمنحان صاحبهما سلطة، وعندما نضع هذا المدخل أمامنا فسوف نجد مقولة الخلاف ظاهرةً: الخلاف بين الفقهاء أنفسهم والمثقفين كذلك، والخلاف بين الفقهاء والمثقفين، وكلّما كانت الأطر الفكرية أشدّ اختلافاً كان الخلاف السلطوي ـ وليس بالضرورة السلطة بالمعنى السلبي ـ بهذا المعنى أعمق؛ لأنّ كلّ مقولة بقدر ما تثبت نفسها تنفي غيرها.
أما العلاقة بين المثقف والسلطة في التاريخ العربي، فقد مرت بتطورات واستقطابات وصدامات، بدءا بالهجاء والمديح في العصور الأولى، وانتهاء بالعديد من الأنماط والأشكال التي أطّرت العلاقة بين المثقف والسلطة، ومنذ بداية النهضة العربية الحديثة في القرن التاسع عشر وحتى عصرنا الحالي وهذه العلاقة الملتبسة تُعتبر أحد أهم الأسباب.
وبنظرة بانورامية شاملة لواقع المجتمعات، خاصة تلك التي تخضع لأنظمة شمولية، نجد أن السلطة تُحيط نفسها عادة بطبقة مثقفة يُطلق عليها "مثقفو السلطة"، وهي ـ أي تلك الطبقة ـ على الأغلب تُمثل مجموعة من الانتهازيين والمنتفعين الذين لا هم لهم سوى تحقيق طموحاتهم الشخصية، ومن أجل ذلك هم على استعداد للقيام بأي فعل في هذه المرحلة الصعبة التي تجتاح الوطن العربي.
نحن بحاجة ماسة للمثقف الحقيقي الذي يُعبر عن ضمير المجتمع، كما نحتاج إلى علاقة صحية وشفافة بين المثقف والسلطة، لا أن تكون علاقة تضاد أو احتواء أو انفصال، نحتاج إلى علاقة تكاملية وتفاعلية.
لقد سئمنا من المثقفين الذين يمتهنون الصدام والعدائية على الدوام، وكذلك فقدنا الثقة بأولئك المثقفين الذين تحولوا من حُراس للكلمة إلى "موظفي" حراسة.
وفي نظرة تاريخية للرعيل الأول لرواد الفكر في النهضة العربية من المثقفين كانوا مسيسين من أخمص القدمين الى قمة الرأس من «جمال الدين الأفغاني» إلى «محمد عبده» و«شكيب ارسلان» و«الكواكبي»، وهؤلاء جميعا بصورة أو بأخرى انخرطوا في ألاعيب ودهاليز السياسة وأدركوا انه الطريق الأقصر لإحداث تغييرات حقيقية في مجتمعاتهم بعيدا عن ثنائية انفصال دور السيف عن دور القلم.
وتجارب الشعوب في كل مكان وزمان تعكس هذا الفصل الحاسم بين الثقافة والسياسة فالممارسة السياسية لا تصبح مرفوضة إلا حين يساوم المثقف ويتنازل عن ثوابته ومبادئه، وهذا ما يجعل المطالبة بدور سياسي فاعل للمثقف ضرورة.
وفي أحوال كثيرة يرى بعض الكتاب بأن ثنائية السيف والقلم لم تنفع السياسي وأضرت بالمثقف وكذلك الطريق الأحادي بكل جسوره، وعبر التاريخ لقد كان المثقفون على الدوام شركاء في السلطة مع أنهم ينكرون ذلك وكانوا يقومون بأدوار مكشوفة ومستورة على الدوام قبل تبلور ثنائية السيف والقلم، كما يردد دائما عند سرد هذه الإشكالية.
المصدر: ميدل ايست أونلاين