رضوى عاشور بهواجسها الرسولية
الإنسان موقف، هذا ما عاشته الراحلة رضوى عاشور وأخلصت له. انتمت، أخلاقياً، إلى ذاتها الباحثة عن مثال، وارتبطت، ثقافياً، بنسق تنويري عربي، بدأه رفاعة الطهطاوي، ولا يزال يستمر مضطرباً حتى اليوم، ولازمت «جيل الستينات»، الذي خرج منه يسار أدبي مصري، توزّع على اتجاهات متعددة.
وهذا الانتساب، أملى عليها منظوراً فكرياً، راجعته أكثر من مرة، يوحّد بين الأدب والسياسة، ويشير إلى رسالة. وكانت أوسع من النسق الفكري الذي التزمت به، بسبب فضول معرفي لا يكفّ عن التوالد.
حين جاءت بيروت ضيفة على «مهرجان الشقيف الشعري»، في نهاية سبعينات قرن مضى، أعلنت عن خيار أخلاقي بلغة بسيطة: «ما يصحّش كده»، الجملة الصادقة الغامضة، التي ردت بها على فلسطيني يسير البلاغة. كانت قد نشرت كتابها عن غسان كنفاني «خيمة عن خيمة تفرق» مختارة خيمة بشّر بها غسان، تفصل بين فلسطين حقيقية، وأخرى تصفها عادات القيادة والكلام اليومي. وبعد أكثر من عقد من الزمان، وفي ندوة في القاهرة عن صديقتها وأستاذتها لطفية الزيات، ستقول: «لا يصح إلا الصحيح»، الجملة الغامضة الأخرى، التي يطلقها المثقف الصادق، وينتظر برهاناً نظيفاً لا يصل.
محاورة الحقيقة
كانت في الجملتين المشدودتين إلى «الصحيح»، أو إلى شــيء يحاور الحقيقة، إيمانية مرهقة، تقنع صاحبها بأن التاريخ لا ينصر الزلل، وبأن الإرادات التي تزهد بالمفيد العارض تصنع التاريخ. غير أن هذا «المؤمن» لا يلبث أن يدرك أن التاريخ، وهو كلمة غامضة بدورها، يتنكّر لأنصاره ويتقدّم إلى حيث يشاء. وليس الإيمان المرهق، الذي لم تشأ رضوى أن تتخلى عنه، إلا تلك العقيدة النبيلة الحالمة بحلف بين التاريخ والإنسان العارف الذي يعتقد، ربما، أنه تاريخ آخر.
عاشت رضوى حياتها موزّعة على الإيمان والقلق، تجسّر المسافة بينهما باجتهاد كتابي يثير الإعجاب، حريصة على الأمل، وعلى إرسال الأمل إلى الذين يحتاجونه. شيء ما من أريج الرسالة الصحيحة، لازم أديبة، قرأت الأدب بمنظور سياسي وعالجت السياسة، ربما، بمعايير أدبية. استعارت من غسان كنفاني، في الحالين، صيغته الشائكة الجميلة عن «واجب الوجود»، التي تفترض، ولو في طور معين، أن صاحب الرسالة يضع المستقبل والحاضر في جيبه ويسير.
حين التقت سعد الله ونوس، في بودابست عام 1987، ربما، وتحاورا عن الأدب والحقيقة، سألها بقلقه المعروف: ما هو المثقف؟ كان المسرحي الراحل قد غادر مرحلة «المثقف الرسولي» وانتقل إلى مرحلة: الكاتب الشكوك، الذي يسائل طويلاً ولا يأتي بجواب أخير. وكانت رضوى كما كانت، وكما ستكون بعد أن صقلها العمل، فتحدّثت عن «الصحيح الذي لا يستقيم الوجود إلا به، وعن المثقف المستقيم الذي يعيد الاعتبار إلى الحقيقة، وعن كتاب «المواجهة»، الذي واجه به المثقفون الوطنيون المصريون «التطبيع مع إسرائيل». بعد اللقاء سيقول سعد الله: المقنع الحاسم لدى عاشور هو ليس ما تقوله ولكن الطريقة التي تقوله بها.
كان الفرنسي أندريه مالرو يقول: «الإنسان محصلة للأعمال التي أنجزها». ومع أن رضوى أنجزت الكثير، الواضح منه والإشكالي، فيمكن أن تقرأ في القول بعد تحريفه: «صورة الإنسان من الذين اختار أن يحاورهم». حاورت ما تريد وهي تحاور غسان كنفاني سائرة معه بين خيم عربية وفلسطينية، فخيمة الفلسطيني، مهما كان وضعها، تنطق باللغة العربية. وحين كتبت عن رحلتها الدراسية إلى الولايات المتحدة ونشرتها في كتاب، حاورت، ضمنياً، لويس عوض، الذي سخر من المثقفين اليساريين في روايته «العنقاء أو حسن مفتاح». وكانت في ما تحاور تنتصر للحق والصحيح وترى إلى «فارس الأمل»، الذي بشّر به الروائي البرازيلي جورج أمادو منذ عقود، ولم يصل. لذا لم يكن حوارها مع ناجي العلي، الذي نشرته في «المواجهة»، إلا استكمالاً لحوارها مع غسان، ولحوار طويل آخر مع إميلي حبيبي، الفلسطيني الساخر الهازل، الذي يضحكه ضحكه، ويكتب من وجهة نظر «المغلوبين»، الذين لم تكن رضوى تقبل بمواقفهم، لأنهم توقفوا عن المسير قبل نهاية الطريق.
في ندوة في بيروت عن إدوارد سعيد، كان في الندوة وقد أمسك به المرض، تحدّثت رضوى عن الثقافة والاستشراق، وعن «الثقافة التابعة» التي «يجب» أن تعقبها ثقافة مستقلة. كانت قد نشرت دراسة عنوانها: «التابع ينهض»، موضوعها، ربما، الأدب الأفريقي، الذي أطلق صوتاً متمرداً، ليس غريباً عن رضوى، هو: جيمس نجوجي، الاسم «التابع» الذي استعاض عن صاحبه باسم وطني: نجوجي واثنجو. لم يكن «التابع ينهض» إلا الخيمة الأخرى، ولم يكن التابع المتمرد وخيمته إلا «حنظلة»، طفل ناجي العلي، الذي يدير ظهره للملأ ويرفع قدمه، ولم تكن هذه الأسماء - الأرقام إلا برهاناً عن «الصحيح» الذي ينهض بعد كبوة، ثم يتبعثر في الطريق. لكن هذا الذي ينهض ويتبعثر يلزم مثقفي الرسالة أن يعيدوا النظر في ثقافتهم وتاريخهم، وأن يأنسوا إلى الوطني الذي يلتبس بأرواحهم، أكان ذلك الوطني شكلاً روائياً، أم شكلاً من العمران تجلى في مدينة.
ولعــل مفاهيــم التــبــعيــة وتصحيح ما جاء وأخفق هو الذي دفع رضوى إلى كتابة روايتها: «قطعة من أوروبا»، شعار الخديوي إسماعيل، الذي أراد أن يبني قاهرة جديدة بمفردات هندسية غربية. رفضت الروائية «العمران التابع» وأرادت مدينة أخرى يأوي إليها «التابع الذي نهض»، الذي طردته «الحداثة العمرانية» خارج أسوارها واستبقت له «عشش الصفيح» أين أصاب التنويري القديم وأين أخطأ؟ أرادت الروائية أن تكتب الاستشراق في شكل روائي، وأن تقوم بـ «جردة طويلة»، كما قال إدوارد في مقدمة كتابه باللغة الإنكليزية. ولهذا وصفت في الرواية «تنويرياً عجوزاً»، يسأل في تسعينات القرن العشرين الخديوي عما فعله في قرن مضى. شيء قريب مما هجس به بهاء طاهر، لاحقاً، في روايته اللامعة «واحة الغروب».
إذا كانت «قطعة من أوروبا» من الأعمال الروائية القليلة التي ساءلت عصر التنوير العربي، فقد كانت أعمال رضوى الروائية كلها مساءلة للقائم وتطلعاً إلى ما يجب قدومه. في روايتها الأولى «حَجَر دافئ» موقع لتظاهرة طالبية تطالب «بالصحيح»، وفي «ثلاثية غرناطة» مقارنة بين بدايات مشرقة ونهايات أليمة، وفي «أطياف» حاورت ذاتها، وقد انقسمت إلى أكثر من شخصية، كما لو كانت ترمّم في ذاتها عطباً لا تقبل به. وغادرها العطب نهائياً في روايتها «الطنطورية»، حيث أصحاب الحق يدافعون عن الحق، والحق الفلسطيني يعود إلى أصحابه من طريق الأمل والمسرّة.
مقهورون وأمل
كان فالتر بنيامين الماركسي - اليهودي المكسو بطبقة سميكة من الثقافة اللاهوتية يقول: «لقد خلق الأمل لهؤلاء الذين لا أمل لهم». في القول ما يستمطر السماء حتى لو كانت خالية من الغيوم. أخذت رضوى بمبدأ الأمل، مازجة الكتابة بالسياسة والأخلاق مؤمنة، وهي الأستاذة الجامعية اللامعة، أن هناك مقهورين يحتاجون إلى الأمل. كانت تنصر قلبها وتردع عقلها، منتظرة «المفاجأة»، أو ذاك المنقذ الغريب الذي يدعى: اللامتوقع، الذي انتظرته طويلاً وجاء من مكان آخر.
في لوحة شهيرة لرسام إيطالي تدعى: «جنازة تولياتي»، الذي ابتعد عن منصبه السياسي في نهاية ستينات القرن الماضي، نرى جثمان الراحل وقد جلّلته الورود، ومشيّعين لهم ألوان تلتبس بالورود. إذا دقّق الناظر إلى وجوه المشيّعين لاحظ، بدهشة، أنها تمسح الأزمنة، فبينهم فلاسفة ومفكرون من القرن التاسع عشر، إلى جانبهم ماياكوفسكي وجان بول سارتر، وعلى مقربة منهما بيكاسو وبول إيلوار وأراغون، وفي موقع ما صورة سبارتكوس، العبد الحر الذي ثار على الإمبراطورية الرومانية. لست أدري لماذا أرى بين مشيّعي رضوى عاشور رفاعة الطهطاوي وأحمد أمين ومحمد مندور وأحمد فارس الشدياق، وقد وضعت رضوى عن هذا الأخير دراسة لامعة، وأرى حسين مروة وكاتب القصة الذي رحل سريعاً: يحيى الطاهر عبدالله، الذي كان يرتّل قصته عن ظهر قلب، وأمل دنقل صاحب القصيدة الشهيرة: لا تصالح والطفل المشاكس: حنظلة.
بدأت رضوى الكتابة الروائية في حجر دافئ، لم تكن رواية واعدة، وأنهت مسارها بكتاب «أثقل من رضوى» في نثره المشرق المتأنق، بلغة سعد الله ونوس. يلمس القارئ الذي يقارن بين العملين جهدها الإبداعي الطويل ويقرأ فيه جوهرها، وهي التي رأت المثقف في أخلاقه، واعتبرت إتقان الكتابة خيراً من إتقان الكلام.
المصدر: الحياة