عام على سقوط سلطة الأسد...متى تسقط سياساته الاقتصادية؟

عام على سقوط سلطة الأسد...متى تسقط سياساته الاقتصادية؟

يحتفل السوريون هذا الشهر بمرور سنة كاملة على سقوط سلطة الأسد، تلك السلطة التي لم تكتف بقمع الحريات السياسية، بل أسست لمنظومة قمع ونهب اقتصادي ممنهج راكمت العذابات على كاهل السوريين وأمعنت في إفقارهم. وبينما تطوي البلاد صفحة السلطة السابقة، لا يزال السؤال الاقتصادي الحارق يفرض نفسه بقوة: هل جرى القطع فعلياً مع النهج الاقتصادي الاجتماعي السابق الذي قاد البلاد إلى الهاوية؟ أم أننا نشهد استمراراً للمنظومة ذاتها بوجوه جديدة؟ من المفيد، بل من الضروري، استعادة الذاكرة القريبة. فقبل سقوط السلطة السابقة بأسابيع قليلة، كانت الماكينة الإعلامية والحكومية تمهد لما سمته «كسر المحرمات». حيث تعالت الأصوات الحكومية معلنة الحرب على ما وصفته بـ«الأيديولوجيا السلبية الجامدة»، في تورية عن نيتها تصفية القطاع العام وإلغاء الدعم الاجتماعي نهائياً. تجلى ذلك في رفع سعر ليتر المازوت من 2000 ليرة إلى 5000 ليرة دفعة واحدة، والإفصاح عن نية الانسحاب من قطاعات صناعية استراتيجية بحجة «تحويلها إلى رابحة». كان ذلك يجري والسوريون قد وصلوا إلى عتبة فقر مدقع غير مسبوقة، حيث صُنف أكثر من 90% منهم تحت خط الفقر وفق تقديرات الأمم المتحدة.

فتح سقوط السلطة السابقة باب الأمل واسعاً أمام السوريين، وحلموا بنموذج اقتصادي جديد يرمم جراحهم ويبني عدالة اجتماعية حقيقية على أنقاض عقود النهب. لكن الصدمة جاءت سريعة مع الإشارات الأولى للحكومة التي شكلت بتفرد، والتي سارعت لإعلان تبنيها «اقتصاد السوق الحر». وهو ما مثل إشارة بدء لتسريع السياسات الكارثية السابقة ذاتها.
وفي خضم الفرح الشعبي بالخلاص من سلطة الأسد، شهدت الأيام الأولى عودة عبد الله الدردري إلى الواجهة، وهو الاسم الذي يحفظه السوريون جيداً بوصفه الوجه الاقتصادي الأول لسلطة بشار الأسد بين أعوام 2003-2011. عاد الدردري ليطلق تصريحه الشهير: «لدينا حكومة لا تملك المال، لا خيار أمامها إلا سبيلين، الغرق في الديون أو تنشيط الاستثمار»، واصفاً اللحظة بأنها «فرصة العمر».
بعد ذلك، تسارعت القرارات التي قصمت ظهر المواطن: رفع الدعم عن السلع الأساسية، ليقفز سعر ربطة الخبز من 400 ليرة إلى 4000 ليرة، وكذلك أسعار المحروقات والخدمات والنقل. ووجد السوريون أنفسهم أمام الأجندة الاقتصادية للسلطة القديمة ذاتها ولكن بوتيرة أسرع.


الانفتاح المنفلت والمزيد من الإفقار


أخطر ما ميز العام الأول هو سياسة الفتح المنفلت للسوق، أو ما يمكن تسميته بـ«الإغراق السلعي». فقد شُرعت أبواب البلاد ومنافذها الحدودية لعمليات استيراد منفلتة، وبشكل خاص من تركيا. حيث دخلت البضائع التركية على اختلاف أنواعها دون أي رقابة حقيقية أو حماية للمنتج الوطني الهش، مما أدى إلى استنزاف كبير لمخزون البلاد الشحيح أصلاً من القطع الأجنبي. ولم يقف الأمر عند السلع الاستهلاكية الصغيرة، بل فتح الباب لاستيراد السيارات، حيث تشير الإحصائيات إلى دخول ما لا يقل عن 400 ألف سيارة جديدة إلى سورية.
قد يبدو مشهد الأسواق الممتلئة بالبضائع الأجنبية الرخيصة نسبياً، وتوفر السيارات الحديثة، كأنه مؤشر «تعافٍ» أو نعمة للمستهلك. لكن في الاقتصاد الكلي، هذه «النعمة» الظاهرية كارثة فعلية. حيث إن إغراق السوق بمنتجات مستوردة رخيصة يعني حكماً بالإعدام على الصناعة المحلية والورش الصغيرة التي تحاول النهوض من تحت الركام، ويعني تحويل سورية إلى سوق استهلاكي بحت يمول مصانع الدول المجاورة بدلاً من تشغيل أبنائه.
وبالتوازي مع هذا الانفتاح التجاري المدمر، ورغم الوعود البراقة التي أطلقت في الأيام الأولى بزيادة الأجور بنسبة 400% لترميم القدرة الشرائية لأصحاب الأجور، جاء الواقع مخيباً للآمال بزيادة لم تتجاوز 200%. عملياً، رُفع الحد الأدنى للأجور من نحو 28 دولاراً (وهو رقم كارثي) إلى نحو 68 دولاراً فقط. وتزامنت هذه الزيادة مع تسارع في عمليات فصل الموظفين، وإجبار الآلاف على إجازات إدارية، ناهيك عن أزمة السيولة التي جعلت عملية سحب الراتب الشهري رحلة عذاب أمام الصرافات الآلية، ذلك عدا عن عمليات النقل التعسفية بين المحافظات. والمشكلة الأكبر أن التصريحات الرسمية لم تخفِ النوايا، بل أكدت مراراً أن التوجه العام هو نحو «تقليص حجم القطاع العام».


فخ المؤسسات الدولية وBOO


وفقاً لـ«مؤشر قاسيون لتكاليف المعيشة»، وصل الحد الأدنى لتكاليف معيشة أسرة سورية مكونة من خمسة أفراد في شهر أيلول الماضي إلى 7.1 مليون ليرة سورية، بينما وصل متوسط التكاليف إلى 11.3 مليون ليرة. وأمام هذا الواقع المرعب، يقف الحد الأدنى للأجور عند ما يعادل 6.5% فقط من التكاليف الوسطية للمعيشة. وبمقارنة بسيطة مع دول الجوار، ندرك حجم المأساة: الحد الأدنى في تركيا 530 دولاراً، وفي لبنان المنهك 400 دولار، وفي العراق 382 دولاراً، وفي الأردن 366 دولاراً، وحتى في مصر 126 دولاراً، بينما يقبع العامل السوري في قاع القائمة بـ68 دولاراً.
في الإعلان الدستوري الصادر في 13 آذار 2025، والذي رسم ملامح المرحلة الانتقالية لخمس سنوات، جاءت المادة رقم 11 مليئة بالتناقضات. فبينما دغدغت المشاعر بعبارات عن «العدالة الاجتماعية»، أرفقتها بنصوص ملزمة تحمي المستثمرين وحقوقهم، غافلةً تماماً عن أي إشارة صريحة لحقوق العمال.
وبعد تطمينات حاكم المصرف المركزي في تموز بأن البلاد لن تستدين من صندوق النقد أو البنك الدوليين، كشف صندوق النقد الدولي في بيان يوم 17 تشرين الثاني عن زيارة فريقه لدمشق واتفاقه على «برنامج تعاون مكثف»، ممهداً لاستئناف مشاورات «المادة الرابعة» سيئة الصيت، وهي المراجعات السنوية التي يجريها الصندوق لتقييم سياسات الدول الأعضاء، وتعمل عملياً كأداة رقابية وسياسية تخدم مصالح دول المركز، وهذه المشاورات كانت قد توقفت في سورية منذ عام 2009، أي قبيل انفجار عام 2011.
عودة هذه المؤسسات، وافتتاح مكاتب لها في دمشق، تعني عودة «الوصفات» التي دمرت مجتمعات بأكملها: تقشف، رفع دعم، وخصخصة. وهي المنظومة ذاتها التي كانت شريكاً في تقويض الاستقرار قبل 2011.
وفي سياق الهرولة نحو جذب الاستثمار الخارجي بأي ثمن، برز العامل الأخطر وهو نظام التعاقد BOO. ففي قطاع الطاقة، تم الإعلان عن عقود استثمارية وفق هذا النظام، أبرزها مع شركة UCC القابضة وإعلان الاستثمار في محطة وديان الربيع الكهروضوئية. هنا يجب أن نتوقف لنشرح الفرق الجوهري والخطير بين نظام BOT (بناء، تشغيل، نقل ملكية) ونظام BOO (بناء، تملك، تشغيل). في نظام BOT، تعود ملكية المشروع للدولة بعد فترة زمنية محددة، أما في نظام BOO، فإن المستثمر يتملك المشروع والبنية التحتية. واعتماد نظام BOO في قطاع الكهرباء يعني خصخصة كلية وتخلياً نهائياً عن سيادة الدولة على هذا القطاع الاستراتيجي. ما يعني أن نور السوريين وظلامهم سيصبح بيد شركات خاصة (غالباً أجنبية أو واجهات لناهبين محليين) تملك المحطات والأرض والقرار، وتبيع الكهرباء بالسعر الذي يحقق أرباحها، دون أن يكون للدولة حق استرداد هذه الأصول.


قوانين الاستثمار واستبدال العملة السورية


في التاسع من تموز 2025، صدرت حزمة من ستة مراسيم رئاسية، كان أخطرها تعديل قانون الاستثمار رقم 18 لعام 2021. حيث نسف هذا التعديل أي استقلالية مؤسساتية، بإنشائه «المجلس الأعلى للتنمية الاقتصادية» برئاسة رئيس الجمهورية مباشرة. وبذلك، تم حصر مفاتيح الاقتصاد والقرارات الاستثمارية بيد السلطة التنفيذية العليا، بعيداً عن أي رقابة برلمانية أو شعبية.
وبالتوازي، جاء مرسوم إحداث «الصندوق السيادي» الذي يتمتع باستقلالية تامة عن رقابة الأجهزة الأخرى، ومُنح صلاحيات واسعة للاستحواذ على أصول القطاع العام واستثمارها أو بيعها. إن وضع أصول الدولة، التي هي ملك للشعب، تحت تصرف صندوق لا يخضع للمساءلة، يشرعن عملية نقل الثروة العامة إلى دوائر ضيقة تحت يافطة «الاستثمار المرن». وفوق ذلك كله، جاءت مسودات القوانين الضريبية التي أعلنت عنها وزارة المالية لتمنح الأثرياء وكبار المستثمرين إعفاءات تاريخية، حارمةً الخزينة العامة من موارد ضخمة.

31c7526f48c9bf825f3865f1b5525689_xl_result
في موازاة ذلك، جاء إعلان حاكم المصرف المركزي، عبد القادر الحصرية، في نهاية شهر آب عن خطة طباعة فئات نقدية جديدة وحذف صفرين من العملة. ظاهرياً، يُسوق هذا الإجراء كحل تقني للتضخم، لكنه في التوقيت والآلية الحالية، يمثل «فرصة العمر» للفاسدين وتجار الحرب القدماء والجدد. هؤلاء الذين يكدسون مئات المليارات من الليرات السورية المنهوبة في أقبيتهم، وجدوا في عملية استبدال العملة مخرجاً لغسيل أموالهم. وهي المسألة التي يمكن اعتبارها قنبلة اقتصادية واجتماعية ذات أثر مباشر على حياة السوريين، وتتطلب تداركاً سريعاً قبل أن تتحول إلى كارثة اجتماعية لا يمكن لأحد أن يتوقع نهايتها حيث تمس تماماً بجوهر العدالة الانتقالية الحقيقية.
أخيراً، جاءت الضربة الأكبر في نهاية شهر تشرين الأول بقرار وزارة الطاقة رفع أسعار الكهرباء وفق نظام الشرائح الأربع. لقد تم الترويج للشريحة الأولى بأنها «لأصحاب الدخل المحدود»، لكن نظرة فاحصة للأرقام تكشف الخديعة، حيث إن سقف استهلاك هذه الشريحة (150 كيلو واط شهرياً) منخفض جداً، مما يدفع حكماً الغالبية الساحقة من الأسر السورية للدخول في الشرائح الأعلى ذات الأسعار المحررة. ما يعني رفعاً كاملاً للدعم مقنّعاً بلعبة حسابية، يهدف لتحويل خدمة الكهرباء من حق أساسي إلى سلعة تجارية باهظة.


المطلوب اجتثاث السياسات الاقتصادية للأسد


بعد عام كامل على سقوط السلطة السابقة، يتضح جلياً للسوريين أن النظام لم يكن مجرد شخص، بل كان منظومة مصالح، وشبكة علاقات، ونهجاً اقتصادياً متوحشاً. إن رحيل رأس السلطة دون تفكيك بنيتها الاقتصادية العميقة هو تغيير شكلي لا يغير النظام فعلياً. والسياسات التي نراها اليوم، من الخصخصة إلى إعادة فتح الباب للمؤسسات الدولية وتراجع القيمة الحقيقية للأجور، وحماية المستثمرين دستورياً دون حماية العمال، تؤكد أن السياسات الاقتصادية السابقة لا تزال حية في جوهرها، تحكم وتتحكم، وتهدد حاضر السوريين ومستقبلهم.
التغيير الجذري الذي دفع السوريون أثماناً باهظة في سبيله، لا يتحقق بتبديل الوجوه بينما البطون خاوية. وما لم تسقط هذه السياسات الاقتصادية، وما لم يتم اجتثاث جذور النيوليبرالية المتوحشة التي زرعتها السلطة السابقة وترويها السلطة الحالية، فإن سقوط السلطة السابقة سيبقى حدثاً منقوصاً، وسيبقى السوريون يدورون في فلك البؤس ذاته، ولكن تحت رايات مختلفة.

25c60c00427e1797878b7fc865e8c974_xl_result

معلومات إضافية

العدد رقم:
1255