«باندا» بدلاً من الدولار؟ هل تشكل الصين مستقبل القروض الدولية؟
من بين جميع دول العالم، يُفترض أن تكون الصين الأدرى بخطورة الجوانب السلبية الكامنة في الإقراض الخارجي. ففي القرن التاسع عشر، دعمت بنوك بريطانية مثل بنك «هونغ كونغ وشنغهاي HSBC» تجارة الأفيون مع الصين. وقد استُخدمت القروض الناتجة عن هذه التجارة لانتزاع الفضة من الصينيين. وعندما ثار الصينيون ضد هذه الترتيبات المالية الطفيلية، أشعل البريطانيون حرب الأفيون الأولى لحماية مصالحهم المصرفية في الصين.
ترجمة: عروة درويش
أما اليوم، فقد أصبحت الصين من أقوى الاقتصادات في العالم، وبدأت الحكومة الصينية تدرك أن هذا يمنحها نفوذاً مالياً هائلاً في مناطق أخرى من العالم. وبفضل قدرتها الصناعية الضخمة وحجم تجارتها الواسع، فمن المحتَّم أن تتحول عملة الرنمينبي (اليوان) إلى واحدة من العملات الرئيسية على الساحة الدولية. لكن، وكما تقول المقولة الشائعة بالإنكليزية: «كلما زادت القوة، زادت المسؤولية»، فإذا كانت الصين تنوي الوفاء بوعدها بتقديم نموذج بديل للعولمة، فإنّ عليها أن تتصرف بحذر في استخدام قوتها الجديدة في مجال الإقراض والعملة.
مرّ مسار التمويل العالمي بالعديد من المحطات، فقد مضى زمن كانت فيه بريطانيا تهيمن على التمويل العالمي. كان مصير الجنيه الإسترليني مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بمكانة الإمبراطورية البريطانية، وبحلول أزمة السويس عام 1956، كانت الرسالة الأمريكية واضحة: بريطانيا أصبحت بلداً مثقلاً بالديون ولاعباً تابعاً في النظام المالي العالمي، والبنوك البريطانية ستتراجع إلى دور ثانوي. بعد الحرب العالمية الثانية، تولت أمريكا الدور القيادي في القطاع المصرفي العالمي. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة لم تستخدم قوتها المالية بالطريقة المباشرة التي انتهجها الإمبرياليون البريطانيون في السابق، فإنّ سمعة الإقراض الأمريكي المبني على الدولار قد تدهورت مع مرور الزمن – خاصة في بلدان الجنوب العالمي.
المشكلة الأساسية فيما يُعرف عادة «بالإقراض بالعملة الصعبة»، هي أنه قد يضع الدول ذات الأنظمة المالية الضعيفة في فخ ديون يصعب الخروج منه. ففي العادة، تمتلك هذه الدول عملات تميل إلى الانخفاض في قيمتها مع مرور الوقت، مما يجعل الإقراض بتلك العملات محفوفاً بالمخاطر، ويتطلب رفع أسعار الفائدة لتعويض التآكل في القيمة. في المقابل، فإن القروض المقدّمة بعملات صعبة مثل الدولار تكون أكثر جاذبية بسبب انخفاض أسعار فائدتها.
لكن ما يحدث عندئذ هو أنه إذا انخفضت قيمة العملة المحلية للدولة المقترضة، يصبح سداد القروض أصعب بكثير. وإذا تراكمت القروض، قد تجد الدولة نفسها خاضعة تماماً للبلد المانح. وبخلاف النظام البريطاني المدعوم بأساطيل البحرية الملكية – كما اختبرته الصين في القرن التاسع عشر – فإن الولايات المتحدة لم تلجأ للقوة العسكرية المباشرة كوسيلة رئيسية لتحصيل الديون، بل اعتمدت على مؤسسات مالية دولية مثل صندوق النقد الدولي لممارسة الضغوط على الدول المدينة، مما يضعها في حلقة مفرغة من التدهور الاقتصادي.
العملة بوصفها أداة تجارية
وفقاً لبيانات صندوق النقد الدولي، انخفضت حصة الدولار من احتياطيات النقد الأجنبي في العالم إلى أدنى مستوى لها منذ ما يقرب من 30 عاماً، وهو ما يعكس بداية التراجع في مكانة الدولار.
في هذا السياق، بدأت الصين في تجربة إقراضها الخاص بالعملة الصعبة. تتمتّع «سندات الباندا» بالعديد من المزايا نفسها التي توفّرها القروض الدولارية، وهناك أسباب قوية للاعتقاد بأن القروض المقوّمة بالرنمينبي ستبدأ تدريجياً في أخذ مكانة القروض بالدولار. مع فقدان الدولار لمكانته كعملة احتياطية عالمية، وارتفاع أسعار الفائدة الأمريكية، أصبحت القروض الدولارية أقل تنافسية، وبدأ المقترضون يبحثون عن بدائل. وبفضل الابتكار التكنولوجي المتسارع، والتضخم المنخفض، والفائدة المتدنية، فإن الصين مؤهلة لأن تكون مصدراً أكثر جاذبية للتمويل.
لكن على الصين أن تسأل نفسها: كيف تنوي استخدام هذه القوة؟ فهي اليوم تُعرف كقوة صناعية عظمى، وهذه السمعة أكسبتها احتراماً دولياً واسعاً. فهل تريد أن تخاطر بهذه السمعة، وتتحول إلى دولة تمارس الإقراض الجشع؟
في الاقتصاد الماركسي، هناك تمييز مهم بين «دوران السلع» و«دوران النقود». دوران السلع هو استخدام المال والتمويل لتعزيز الإنتاج والتجارة، وهذا هو النموذج الذي تتبعه الصين حالياً. أما دوران النقود، فهو تراكم المال لغرض المال نفسه، وهو ما يجعل العملية الإنتاجية خاضعة بالكامل لمن يمتلكون قدرة خلق المال.
قررت الحكومة الصينية إعطاء الأولوية في الداخل لدوران السلع، مدركة أن إعطاء الأولوية لدوران النقود يمكن أن يؤدي إلى تفريغ الاقتصاد من مضمونه الإنتاجي – أي تفادي ما حدث في الولايات المتحدة. ومع انفتاح الصين على العمل المالي الخارجي، عليها أن تقرر ما إذا كانت تريد تصدير نموذجها القائم على دوران السلع، أم أن تنزلق إلى تكرار أخطاء النموذج القائم على تدوير المال.
بداية جديدة
كيف يمكن تجسيد هذا الخيار على أرض الواقع؟ الجواب يكمن في توظيف القوة المالية الصينية الناشئة لتعزيز تنمية الاقتصادات الأخرى، بدلاً من توريطها في فخاخ ديون يصعب الخلاص منها. ولتحقيق ذلك، يجب على الصين أن تنشئ نظام إقراض خارجي يأخذ في الحسبان أن الدول النامية غالباً ما تمر بتقلبات في قيمة عملتها، وأن تُصمم أدوات التمويل وفقاً لهذه الحقيقة، لا أن تعاقب هذه الدول عليها.
البداية تكمن في الاعتراف بأن المال، بحد ذاته، ليس مهماً. ففي الاقتصاد السليم، يكون المال مجرد وسيلة لتحقيق أهداف إنتاجية وتجارية. وبالتالي، يجب ألا تُقيَّم القروض الخارجية الصينية بمدى الربح المالي المباشر، بل بمدى قدرتها على تعزيز التجارة والإنتاج في الدول المقترضة.
لنفترض مثلاً أن الحكومة الصينية قررت بناء خط سكة حديد يربط بينها وبين دولة مجاورة، لما لذلك من أثر تحفيزي على التجارة. ثم تفاوضت مع تلك الدولة حول التمويل. وإذا كانت التكلفة المتوقعة 25 مليار رنمينبي، وكانت الدولة تعاني من عملة تميل إلى الانخفاض، فإن المطلوب هو قرض منخفض الفائدة، مقوّم بالرنمينبي، ولكن يجب أن يتضمن بنداً في العقد ينص على أن أي انخفاض كبير في قيمة العملة لدى الدولة المقترضة سيؤدي إلى تعديل شروط السداد.
هذا النوع من الترتيبات يخلق نظاماً عادلاً، ويعترف بأن تراجع قيمة العملة غالباً ما يكون خارج إرادة الدولة، حتى وإن كانت ملتزمة بسداد ديونها. وإذا لم تعترف الصين بهذه الحقيقة، فإنها قد تقع في فخ الإقراض الاستغلالي. أما إذا أدركت أن غاية الإقراض الخارجي هو تعزيز الإنتاج والتجارة، فستكون قادرة على استكشاف فرص حقيقية في دول أخرى، وتوفير تمويل مرن وغير استغلالي، يركّز على دوران السلع لا دوران النقود.
وما دامت هذه القروض تُستخدم في استثمارات استراتيجية، فإنها لن تضعف مكانة الرنمينبي، بل على العكس ستقويها. إذ ستُساهم في توسيع استخدام الرنمينبي عالمياً، وتُعزز من استخدامه كعملة للتجارة. فمثلاً، في مشروع السكك الحديدية السابق، سيبدأ مبلغ 25 مليار رنمينبي في التدفق داخل اقتصاد الدولتين المعنيتين، وسرعان ما سيجد المورّدون المحليون أنفسهم يتعاملون بهذه العملة، ويبدؤون باستخدامها في أنشطتهم التجارية.
ومع تراكم أرصدة الرنمينبي في هذه الدول، ستبدأ الشركات المحلية بالاقتراض بالرنمينبي بشكل طبيعي، خاصة إذا كانت مداخيلها مقوّمة به، مما يُلغي مخاطر تقلب سعر الصرف، ويُسهّل استخدام عقود تمويل تقليدية غير خاضعة للرقابة الدقيقة التي تتطلبها القروض الاستراتيجية. بهذه الطريقة، سيتشكل سوق إقراض خاص بالرنمينبي في الخارج، من خلال القطاع الخاص، دون تدخل مباشر من الدولة.
مع تراجع هيمنة الدولار وارتفاع معدلات الفائدة الأمريكية، ستجد الصين نفسها تمتلك قوة مالية متزايدة عالمياً. وإن لم تُحسن إدارة هذه القوة، فقد تنزلق تدريجياً إلى مصير الدول الإمبريالية السابقة، وتُصبح نموذجاً جديداً للإقراض الاستغلالي الذي يدمّر اقتصادها عبر تغليب دوران النقود على دوران السلع.
لكن إذا أحكمت الصين سيطرتها على هذا النظام وأدارته بحكمة، فستتمكن من تسخير قوتها المالية لخدمة التنمية الاقتصادية في جميع أنحاء العالم. وحينها، لن يُنظر إلى الرنمينبي في الأسواق الدولية كأداة لزعزعة الاستقرار أو الإغراق في الديون، بل كرمز للتنمية والنمو والازدهار. وذلك سيكون هو الوجه الحقيقي «للإقراض الخارجي بطابع صيني».
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1231