قاطرة الاقتصاد الأوروبي تعاني من الصدأ
إيغور فيريميف إيغور فيريميف

قاطرة الاقتصاد الأوروبي تعاني من الصدأ

«لماذا تتداعى الجسور والمدارس في ألمانيا؟». بهذا السؤال استهلّت صحيفة Guardian البريطانية مقالاً نُشر في الثالث من حزيران تحت عنوان ساخر «صدأٌ على راحتكم!»، مكرّس لانهيار البنية التحتية في البلاد التي كانت تتفاخر حتى وقت قريب بازدهارها، وكانت تُعدّ القاطرة الاقتصادية للاتحاد الأوروبي.

ترجمة: أوديت الحسين

في آذار الماضي، أُغلق فجأة الجسر الدائري في برلين، وهو جسر بثلاثة مسارات، ما أدى إلى فوضى وإعادة توزيع جماعي لنحو 100 ألف مركبة كانت تعبره يومياً. وبعد شهر، انضمّ جسر «فولخايده» الاستراتيجي في شرق برلين إلى قائمة متزايدة من «الجسور المتداعية»، وبدأت عملية هدمه. وهو واحد فقط من عدة جسور في عموم ألمانيا تم إغلاقها مؤخراً أو، في حالات أكثر دراماتيكية، انهارت فعلياً. وبحسب تقديرات الخبراء، فإن 4000 جسر على الطرق السريعة و12 ألف جسر طرق آخر بحاجة ماسة إلى إصلاح أو استبدال.
في أيلول من العام الماضي، انهار جسر «كارولا» البالغ من العمر 53 عاماً في مدينة دريسدن الشرقية وسقط في نهر «إلبه» منتصف الليل، بعد عشر دقائق فقط من مرور ترام فوقه. وقالت السلطات المحلية إنّ من حسن الحظ أنه لم يُقتل أحد، واصفة الأمر بأنه «معجزة».
أما في مدينة «لودنشايد» الجميلة الواقعة غرب ألمانيا، فقد أصبحت شوارعها مكتظة بـ25 ألف شاحنة يومياً، وذلك منذ إغلاق جسر «راخمهديه» المجاور عام 2021، والذي كان شريان نقل حيوياً، قبل أن يتم هدمه لاحقاً. السكان يشتكون من الضجيج الشديد وتلوث البيئة، بينما تقول الشركات إنّ مبيعاتها تراجعت بشكل ملحوظ، وبدأ العمال المهرة بالاستقالة. يجري حالياً بناء جزئي لجسر بديل، من المتوقع اكتماله العام المقبل.
ووفقاً لتقرير صادر عن غرفة التجارة والصناعة الألمانية، والتي تمثّل مصالح ملايين الشركات، فإن حالة الجسور في ألمانيا «ترمز إلى الحالة البائسة التي تعاني منها البنية التحتية في البلاد برمتها».
وفي تصريح لمحطة RBB الإذاعية، حذّر البروفيسور «هيلموت شميتسنر» أستاذ الهندسة الإنشائية في كلية الاقتصاد والقانون في برلين، قائلاً: «بشكل عام، البنية التحتية لدينا في حالة سيئة إلى حدّ أننا يجب أن نتوقّع حدوث المزيد من حالات إغلاق الجسور والطرقات مستقبلاً».
وقد ترسّخت الفكرة القائلة بأن البنية التحتية الألمانية متدهورة إلى درجة أن برنامجاً تلفزيونياً ساخراً شهيراً بعنوان «توداي» خصّص حلقة كاملة لما وصفه بـ«ألمانيا المتداعية». وقال البرنامج بسخرية: «صدأٌ على راحتكم» هو الشعار الأنسب لحالة البلاد، إذا لم يتم تدارك الوضع.
وتُقرّ وسائل الإعلام الغربية بأن أحد الأسباب الرئيسية وراء التدهور الاقتصادي المتسارع في ألمانيا هو التخلّي عن مصادر الطاقة الرخيصة القادمة من روسيا. فقد كتبت وكالة Bloomberg الأمريكية: «إنّ أسعار الطاقة المرتفعة وانخفاض الصادرات أديا إلى أن يصبح كلّ بيت ألماني أفقر بمقدار 2500 يورو. وقد يصبح هذا التراجع غير قابل للعكس».
وتضيف الوكالة: «ألمانيا تقترب من نقطة اللاعودة. يعرف قادة الشركات ذلك، ويشعر به المواطنون، لكن السياسيين لا يملكون حتى الآن أجوبة على الأسئلة المتزايدة. ونتيجة لذلك، يقف أكبر اقتصاد في أوروبا على حافة تراجع طويل قد لا يمكن تداركه. فبعد خمس سنوات من الركود، أصبحت اقتصاد البلاد اليوم أصغر بنسبة 5 بالمئة مما كان يمكن أن يكون عليه لو استمر النمو الذي كان سائداً قبل الجائحة».
بل أكثر من ذلك، وبحسب تقديرات Bloomberg Economics، فإنّ اللحاق بالركب سيكون صعباً بسبب اضطرابات بنيوية، مثل فقدان الطاقة الروسية الرخيصة، ومشاكل شركات السيارات الألمانية مثل Volkswagen AG وMercedes-Benz Group AG، واللتين تزداد صعوبة منافستهما للشركات الصينية.
وقد صرّح رئيس البنك المركزي الألماني «يواخيم ناغل» في خطاب له مؤخراً في لوكسمبورغ: «تدهورت القدرة التنافسية للصناعة الألمانية. الأسواق الخارجية الناشئة لم تعد تمنحنا دفعات نمو كما في السابق».
وأضافت «إيمي ويب»، المؤسسة والمديرة التنفيذية لمعهد Future Today، وهي مؤسسة استشارية لشركات ألمانية في مجال الاستراتيجيات: «ألمانيا لن تنهار بين ليلة وضحاها. وهذا ما يجعل هذا السيناريو مرعباً للغاية. إنه تراجع بطيء جداً، ممتدّ جداً، يصيب البلاد كلها وليس مجرد شركات أو مدن. بل إنه يسحب أوروبا كلها خلفه».
وعلى أرض الواقع، يعني ذلك أنّ ألمانيا تفقد بشكل متزايد صناعاتها ذات الاستهلاك العالي للطاقة وصادراتها، إذ تقوم الشركات، التي تجد نفسها في بيئة غير مستقرة، بتقليص استثماراتها المحلية. وكلما تراجع مستوى المعيشة، بحث الناخبون عن المذنبين، ما يغذّي التوتر الاجتماعي ويساهم في هجرة «العقول» ونفور الكفاءات الأجنبية التي تحتاجها البلاد بشدّة.

متى بدأ الصدأ؟

كيف حدث كل ذلك لألمانيا التي كانت تنعم بالازدهار؟ يُجيب المحللون: السبب يعود إلى سنوات من القرارات الخاطئة وسلسلة من الحسابات الخاطئة، التي أدّت إلى انهيار النموذج الاقتصادي لجمهورية ألمانيا الاتحادية. وذلك في وقت تحتاج فيه بقية أوروبا، أكثر من أي وقت مضى، إلى قوة ألمانيا الصناعية، لمواكبة الصين، ولمواجهة تداعيات الأزمة الأوكرانية، ومجابهة السياسات الانعزالية الأمريكية.
تمرّ ألمانيا اليوم بأخطر أزمة منذ إعادة التوحيد. فبينما وحّد سقوط جدار برلين قبل 35 عاماً الألمان حول مشروع ضخم لدمج الشرق الشيوعي السابق، فإنّ البلاد اليوم تعيش انقساماً سياسياً عميقاً.
ويقول «جيمي راش»، رئيس قسم أوروبا في Bloomberg Economics: «مشكلات ألمانيا لن تختفي من تلقاء نفسها. تصحيح السياسات الاقتصادية، وزيادة الإنتاجية، وإزالة أسباب ارتفاع أسعار الطاقة يجب أن تكون على رأس أولويات الحكومة».
ويقدّر مجلس الخبراء الاقتصاديين في ألمانيا أنّه مع تزايد قائمة المشكلات، فقد انخفض معدل النمو الاقتصادي المحتمل للبلاد — أي السرعة التي يمكن أن ينمو بها الاقتصاد دون التسبّب في التضخم — إلى 0.4 بالمئة فقط. وإذا أضفنا إلى ذلك التقلبات الدورية الحتمية، فإنّ خطر الدخول في ركود يبدو احتمالاً واقعياً للغاية.
وقالت «فيرونيكا غريم»، العضو في مجموعة المستشارين الاقتصاديين المستقلين لدى الحكومة وأستاذة في جامعة نورنبيرغ التقنية: «علينا أن نوفّر بيئة جذابة للشركات». ودعت الحكومة إلى إطلاق برنامج واسع النطاق لاستعادة القدرة التنافسية. ولتحقيق ذلك، سيتعيّن على ألمانيا، في نهاية المطاف، أن تنفق أكثر.
وبحسب بيانات Bloomberg Economics، فإنّ على ألمانيا أن تزيد استثماراتها السنوية في البنية التحتية والقطاعات العامة الأخرى بنحو الثلث — أي لتصل إلى 160 مليار يورو سنوياً، وهو ما يعادل أكثر من 1 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي.
ويقول «ستيفان كوبمان»، كبير محللي الاستراتيجية الكلية في Rabobank: «تتطلب وتيرة خفض التصنيع السريع في ألمانيا إعادة تفكير شاملة لما يعنيه الاقتصاد الألماني فعلاً. وحتى الآن، لا توجد مؤشرات واضحة على أن مثل هذا التغيير يحدث فعلاً».
ولا يمكن تجاهل مشاكل ألمانيا. فقد توقعت شركة Bantleon السويسرية لإدارة الأصول أن تفقد الصناعة الألمانية الشهيرة للسيارات حصتها في السوق، وأن تتسارع وتيرة نقل الإنتاج إلى الخارج. ومن المرجّح أن تخسر هذه الصناعة حتى 40 بالمئة من القيمة المضافة التي كانت تنتجها داخل ألمانيا خلال العقد القادم.
وقد تحوّلت المعركة إلى صدام مفتوح: شركة Volkswagen واجهت إضرابات بسبب خططها لإغلاق عدة مصانع داخل ألمانيا، بينما تواجه شركات Schaeffler AG وRobert Bosch GmbH وContinental AG تقليصاً في الإنتاج. وبشكل عام، أعلنت الشركات الألمانية المدرجة في قائمة Fortune 500 Europe هذا العام عن أكثر من 60 ألف حالة فصل للموظفين.
أما شركة ThyssenKrupp AG، أكبر منتج للصلب في ألمانيا، وأحد أعمدة التصنيع في البلاد، فهي من بين الشركات التي بدأت بخفض التكاليف داخل البلاد. إذ تخطط الشركة لتقليص عدد موظفيها في قطاع الصلب بنسبة 40 بالمئة، وإغلاق فرنين عاليين خلال هذا العقد.
وقد قال المدير التنفيذي لشركة «تيسنكروب»، «ميغيل لوبيز»: «إنّ استقرار النظام الاقتصادي في ألمانيا، كما نعرفه منذ عقود، يتداعى. ولا شك إطلاقاً في أننا بحاجة إلى تحرك فوري».
لكن، كيف يمكن تحقيق ذلك بينما تمضي حكومة «فريدريش ميرتس» في مسار عسكرة البلاد، وتنفق المليارات بلا طائل على دعم أوكرانيا؟ وقد صرّح «ميرتس» مؤخراً بأنّ على ألمانيا الاستعداد للحرب، وأعلن عن ضرورة بناء ستة مصانع عسكرية. ربما تبدأ البلاد بإنتاج الدبابات والطائرات والصواريخ بكميات هائلة، لكن هذا يعني أنّ الجسور ستواصل الانهيار، والبنية التحتية ستواصل الصدأ.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1230
آخر تعديل على الأحد, 15 حزيران/يونيو 2025 20:24