الصين والاقتصاد السياسي للمرحلة الانتقالية
تَعقد «المبادرة الدولية لتعزيز الاقتصاد السياسي» مؤتمراً كلَّ عام، يجمع بين خبراء الاقتصاد الماركسيين لمناقشة أحدث النظريات والتطورات في الرأسمالية في جلسات يتم فيها تقديم العديد من الأوراق البحثية. كان موضوع المؤتمر الأخير الذي أقيم في إسطنبول: «الاقتصاد العالمي المتغير والإمبريالية اليوم». شارك عالِم الاقتصاد-السياسي الماركسي مايكل روبرتس في بعض جلسات هذا المؤتمر عبر الإنترنت واطّلع على أوراقٍ من المشاركين في المؤتمر. وكَتب التحليل والنقد الآتي حول بعض المشارَكات.
ترجمة: قاسيون
عُقِدت جلستان عامتان حول الموضوع الرئيسي للمؤتمر، أدارهما تريفور نجواني من جامعة جوهانسبرغ في جنوب أفريقيا وأوتسا باتنايك من جامعة جواهر لال نهرو في الهند. لم أتمكن إلّا من الحصول على مقتطفات من هاتين الجلستين العامتين، ولكن بقدر ما أستطيع أن أجزم، كان نجواني وباتنايك حريصين على إخبار جمهورههما بأنّ الاشتراكيين لا ينبغي لهم أن يعتمدوا على مجموعة البريكس «أو البريكس بلس بما في ذلك الدول الجديدة، إيران والمملكة العربية السعودية وتركيا قريباً» ومؤسساتها المتوسعة لمقاومة هيمنة الكتلة الإمبريالية بقيادة الولايات المتحدة.
زعم نجاواني أن دول مجموعة (البريكس+) رأسمالية وإمبريالية مثل الكتلة الإمبريالية في الشمال العالمي، وأنّ هذه الدول وحكوماتها سوف تستغل الفقراء بالقدر ذاته. وذكر أنّ الصين رأسمالية وإمبريالية في علاقاتها مع الأطراف. ويصف نجواني دولَ مجموعة البريكس بأنها «إمبريالية فرعية»؛ تستغلها الكتلة الإمبريالية ولكنها تستغل دولاً أخرى أدنى منها. وشدد نجواني بأنّ القوة الوحيدة للتغيير سوف تأتي «من الأسفل» من الطبقة العاملة في هذه البلدان، وليس من أمثال شي في الصين، أو مودي في الهند.
في رأيي، هناك قدر من المنطق في استنتاج نجواني، فلا يمكننا أن نتوقع من حكومات مجموعة البريكس أن تحوِّل العالم على الرغم من مقاومتها للكتلة الإمبريالية الأميركية. لكن من ناحية أخرى، فإنّ وصف نجواني للصين بأنها إمبريالية، ناهيك عن كونها رأسمالية، وجميع دول مجموعة البريكس بأنها «إمبريالية فرعية»، لا يروق لي. وسوف أعود إلى هذه القضايا في موضعٍ لاحق من هذه المقالة.
في عرضها، ركَّزت الباحثة الهندية باتنايك على الفشل في القضاء على الفقر في الجنوب العالمي. وكان هذا الفشل راجعاً إلى استغلال بلدان الشمال العالمي للدول الفقيرة. وركزت ملاحظاتها على مستويات الفقر الرهيبة استناداً إلى مقاييس تناول السعرات الحرارية. لكنها كانت مهتمة أيضاً بالجدال ضدّ إعلان الصين بأنها انتشلت 800 مليون صيني من براثن الفقر. وذلك كما قالت: لأنّ الصين كانت رأسمالية بالقدر نفسه.
لكن هذه الحجة تم دحضها من قبل الحاضرين: ذلك أنّ معايير الصين لتحديد مستوى الفقر تستند إلى الدخول وفئات أخرى من «الرفاهة»: الغذاء، والملابس، والتعليم، والدعم الطبي، والسكن الآمن. ووفقاً لهذه المعايير فإن عدد الفقراء في الصين أقل كثيراً من عدد الفقراء في الهند.
لكنّ الأكثر إحباطاً كان الحلول السياسية التي اقترحتها باتنايك لمشكلة الفقر في الهند والجنوب العالمي. فقد سارت على خطى كينز (وليس ماركس)، حيث رأت أنّ الحكومات بحاجة إلى إنفاق المزيد من الأموال وتحمل العجز لإنفاقها على تخفيف حدة الفقر.
هذا يعيدني إلى السؤال حول ما إذا كانت الصين رأسمالية و/أو إمبريالية. ناقشت هذا الأمر بالتفصيل في العديد من المنشورات على مدوّنتي وفي الأوراق والكتب، لذا فلن أتناول هذه القضية مرة أخرى هنا. يكفي الآن تقديم دليل ضد فكرة أن الصين إمبريالية، أو حتى «إمبريالية فرعية» - بمعنى أنها مستغَلَّة من قبل الكتلة الإمبريالية وتستغلّ في الوقت نفسه بلداناً أفقر منها. لقد قدمتُ مع مينو كارشيدي أدلة على عمليات نقل القيمة التي تُظهر أنّ الصين خضعت للاستغلال، وقامت بتحويلات كبيرة في القيمة من خلال التجارة والاستثمار إلى الكتلة الإمبريالية.
الصين وتحديات النمو
في حديثنا عن الصين، نظّمت مجموعة عمل معهد الصين للسياسات الاقتصادية والتخطيط عدة جلسات حول الصين. تناولت الجلسات نموذج التنمية في الصين، واستثماراتها المرتفعة في المَركبات الكهربائية والطاقة الشمسية، ولحاق الصين بالولايات المتحدة. وفي جلسة ورشة عمل، قدمت أنا وآخرون أوراقاً بحثية قصيرة. كان هدفي، وعلى عكس الحكمة التقليدية للغرب، هو إظهار أنّ النمو الاقتصادي الصيني قبل إصلاحات دينغ [شياو بينغ] في عام 1978 كان قوياً للغاية، استناداً إلى الملكية العامة للقطاع المالي والشركات الكبرى، وإصلاح الأراضي للفلاحين، وقبل كل شيء، التخطيط الوطني. لم تكن هناك سوى فترتين من التراجع: القفزة العظيمة إلى الأمام في الفترة 1958-1961 وما يسمى «الثورة الثقافية» في أواخر الستينيات.
المشكلة التي تواجه اقتصادات الجنوب العالمي هي أنه طالما ظلت الرأسمالية وقانون القيمة مهيمنين في اقتصاداتها، فسوف يظل هناك تناقض بين زيادة الإنتاجية واستدامة الربحية: فمحاولة زيادة الأولى تؤدي إلى انخفاض الثانية وبالتالي تحد من النمو في نهاية المطاف [طالما أنه يجري في شروط رأسمالية].
«التراكم الاشتراكي البدئي»
في جلسة أخرى حول الصين في معهد السياسات الاقتصادية الدولية، عبّرت سام كي تشنغ من جامعة ماكاو عن هذا التناقض بشكل جيّد في بحثها «التراكم الاشتراكي البدئي كتنميةٍ تنافسية». أطلقت سام كي تشنغ على الصين صفة «اقتصاد انتقالي» حيث يكمن التناقض بين اقتصاد مدفوع جزئياً بالتراكم الرأسمالي من أجل الربح وجزئياً بما أسماه الاقتصادي السوفييتي يفجيني بريوبرازينسكي «التراكم الاشتراكي البدئي» الذي يهدف من خلال الاستثمار المخطَّط إلى تحقيق الأهداف الاجتماعية دون الحاجة إلى السوق.
لكن ما الذي سينتصر: التراكم الاشتراكي أم التراكم الرأسمالي في الصين؟ إذا كان التراكم الرأسمالي هو الفائز، فإنّ سام كي يزعم أن الصين لن تتقدم إلى مرتبة الدول ذات الدخل المرتفع، وسوف تنتهي إلى ما يشبه نموذج التنمية الياباني الذي توقَّف بعد أن أنهت اليابان استراتيجيتها الصناعية المستقلة وخضعت للهيمنة الأمريكية.
أثار سيرجيو كامارا من جامعة المكسيك حجة مماثلة في ورقته البحثية «هل تنفصل الصين عن ديناميكيات النيوليبرالية؟». زعم كامارا أن الاقتصاد الصيني الذي تقوده الدولة قادر على تحقيق أهدافه في «اللحاق بالركب» ولكن الكثير، كما اعتقد، يعتمد على بناء التعاون مع اقتصادات الجنوب العالمي الأخرى مثل مجموعة (البريكس+). وإلّا فإن الاقتصاد العالمي سوف ينزلق إلى «عالَم ثنائيّ القطب مع فراغٍ هيمنيّ يولّد مخاطر حقيقية للمستقبل».
أظهرت أوراق بحثية أخرى مخاطر الفشل بسبب الأزمات التي قد يتورّط فيها القطاع الرأسمالي في الصين. كان أبرزها انهيار قطاع العقارات والمطوّرين من القطاع الخاص، الأمر الذي ترك أعباء ديون ضخمة على الشركات والحكومات المحلية. وكان تبنّي النموذج الغربيّ للتمدّن والإسكان في تسعينيّات القرن العشرين لبناء منازل للبيع لملّاكها، بتمويل من الرهن العقاري وديون السندات، بمثابة الأسوأ – تماماً كما حدث في الغرب في انهيار سوق العقارات في عامي 2007 و2008. زعمت الباحثة جيرون أنه في حين قد تتجنب الصين «لحظة مينسكي» أيْ الانهيار المالي الذي عانى منه الغرب في عام 2008، فإنّها أظهرت مخاطر «الأمْوَلة financialisation» في الاقتصاد الصيني.
في هذا السياق، قدم تشن تشن تشانغ بحثاً تجريبياً مثيراً للاهتمام أظهر وجود ارتباط وثيق بين الاستثمار في القطاعات الإنتاجية والنمو. فقد أدّت زيادة الاستثمار في القطاعات المالية والعقارية غير المنتجة على حساب القطاعات الإنتاجية إلى تقليص إمكانيّات النموّ في الصين بعد عام 2008. ولهذا السبب تؤكد قيادة الحزب الشيوعي الصيني الآن على الاستثمار الإنتاجي «الجيّد» من الآن فصاعداً.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1192