الحقائق التاريخية الاقتصادية وسؤال «إلى متى سيظل الدولار عملة عالمية؟»
في المؤتمر الدولي الذي انعقد في «بريتون وودز» عام 1944، تبوأ الدولار الأمريكي رسمياً مكانة العملة العالمية. وقد حافظ على هذا الوضع لمدة 80 عاماً. ولسنوات خلت، كانت ثمة مناقشات حادّة حول المدة التي سيظل فيها الدولار الأمريكي العملة العالمية. ونطاق التقديرات والتنبؤات واسع جداً: يقول البعض إن الدولار الأميركي (ليس كعملة وطنية، بل كعملة عالمية) سوف يموت اليوم أو غداً. ويرى آخرون أن لديه «هامش أمان» واسعاً لمدة تتراوح بين عشرين إلى ثلاثين عاماً أخرى. بينما لا يزال البعض يعتقد أنه من المستحيل التنبؤ أصلاً وأن الصدفة هي عاملٌ حاسم في هذا السياق. أما الفئة نادرة الوجود اليوم فهي من تعتقد أن الدولار الأمريكي ليس في خطر على الإطلاق، وتقول إنه يعاني من «صعوبات مؤقتة» كانت موجودة من قبل وتم التغلب عليها بنجاح وسيتم التغلب عليها مجدداً. فأين هو الموقع الحقيقي للدولار اليوم؟
في تاريخ البشرية، كانت هنالك العديد من العملات التي حازت على مرتبة العملات العالمية، واستُخدِمت كوسيلة عالمية للدفع في التجارة الدولية وكوسيلة للاكتناز. حتى أن بعض المؤرخين قاموا بحساب العمر الافتراضي لمثل هذه العملات العالمية (أي طول الفترة التي استطاعت فيها هذه العملات أن تحتفظ بمرتبتها كعملات عالمية).
محاولة لفهم «دورات حياة» العملات الدولية
إحدى المقالات المهمّة في هذا الإطار هي مقالة بعنوان «العملات الاحتياطية العالمية: ماذا حدث خلال فترات التحول السابقة؟» للكاتب كريس فيريرا، نُشرت في موقع Economic reason عام 2014، وقدّم فيها نظرة عامة مكثفة للعملات العالمية منذ منتصف القرن الخامس عشر إلى القرن الواحد والعشرين، مبرزاً تقديراته لـ«دورة حياة» كل عملة. وهي على الشكل التالي:
- الريال البرتغالي (1450-1530): نحو 80 عاماً.
- الإسكودو الإسباني (1530 – 1640): نحو 80 عاماً.
- الغيلدر الهولندي (1640 – 1720): نحو 80 عاماً.
- عملة لويس دور الفرنسية (1720-1815): نحو 95 عاماً.
- الجنيه الإسترليني (1815-1920): نحو 105 أعوام.
الدولار الأمريكي، منذ عام 1920. ولا يزال وضعه كعملة عالمية قائماً حتى يومنا هذا. وبالتالي، فإن عمر الدولار اليوم هو 104 أعوام.
بطبيعة الحال، فإن هذه التقديرات تقريبية. حيث ليس من الممكن دائماً تسجيل اللحظة التي تصبح فيها العملة المحلية عملة عالمية بدقة. كما يكون من المستحيل في بعض الأحيان تحديد اللحظة التي تفقد فيها العملة مكانتها العالمية بدقة.
بالإضافة إلى ذلك، كانت هنالك أعوام تنافست فيها عملتان دوليتان على لقب العملة العالمية. إحداهما كانت عملة «صاعدة» والأخرى «هابطة». على سبيل المثال، في الفترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، استمر الجنيه الإسترليني في البقاء كعملة عالمية، وكان الدولار الأمريكي يعزز بالفعل مكانته كعملة عالمية. وخلال فترة ما بين الحربين العالميتين، كان هناك نوع من «ازدواجية القوة» بين العملتين البريطانية والأمريكية.
رغم ذلك، فإن الصورة أعلاه واضحة جداً وتتطلب الكثير من التفكير. ويترتب على البيانات المذكورة أعلاه أن متوسط عمر الوحدة النقدية كعملة عالمية يقترب من قرن واحد. وإذا عدنا إلى عام 1920، فإن الدولار الأمريكي ظل في هذا الوضع للعام الرابع بعد المائة.
هنالك اليوم الكثير من المواد والتعليقات على شبكات التواصل الاجتماعي وعلى الإنترنت بشكل عام، ومؤلفوها على دراية بهذه التقييمات. ويميل بعضهم إلى الاعتقاد بأن الدولار الأمريكي كعملة عالمية قد اقترب بالفعل من الموت، ولحسن الحظ، هنالك العديد من العلامات الأخرى التي تشير إلى ذلك.
هذا ليس النهج الوحيد ولا الأهم لتقييم وضع الدولار
يعتقد بعض الخبراء المطلعين على «دورات حياة» العملات العالمية السابقة، بالاستناد إلى ما يسمى بالنهج التاريخي، أن عمر الدولار الأمريكي كعملة عالمية مبالغ فيه. ويقولون: إننا لا ينبغي أن نحسب ابتداءً من عام 1920، ولكن من عام 1944، ذلك عندما تسيّد الدولار الأمريكي فعلياً وثبّت مكانته كعملة عالمية. ولذلك، فهو - من وجهة نظرهم - لا يزال يبلغ من العمر 80 عاماً فقط. وعليه يفترضون أنه قد يعيش عشر أو عشرين سنة قبل أن يموت تماماً كعملة عالمية.
لكن هذا الرأي تغالطه الوقائع والبراهين، فإن معظم الخبراء الذين يتنبؤون بمستقبل الدولار الأمريكي لا يسترشدون بـ«النهج التاريخي» كعامل وحيد، بل يعتمدون في المقام الأول على الإحصاءات الاقتصادية والاتجاهات التي يتم التوصل إليها باستخدام هذه الإحصاءات. ويتحدث أنصار هذا النهج الاقتصادي بثقة أكبر عن عملية احتضار الدولار الأمريكي.
هنالك على سبيل المثال مؤشر مثل حصة الدولار الأمريكي في إجمالي احتياطيات النقد الأجنبي لدول العالم، والتي يحسبها صندوق النقد الدولي بشكلٍ دوري: وصل هذا المؤشر إلى أعلى مستوياته في النصف الأول من السبعينيات. ففي عام 1970 كانت النسبة 84.55%، وفي عام 1975 وصلت إلى 84.61%. وبعد ذلك بدأ الدولار الأمريكي يفقد مكانته بسرعة. وبالفعل، في عام 1990، انخفضت حصة الدولار في احتياطيات النقد الأجنبي العالمية إلى مستوى مفزع بلغ 47.14%. وفي الثمانينيات، بدأ التعبير عن موضوع «موت الدولار» لأول مرة، إلا أن خروج الولايات المتحدة بالخسائر الأقل في الحرب الباردة، وبداية مرحلة العولمة الاقتصادية والمالية، بعثا الحياة في الدولار الأميركي. واستمر تعزيز موقع الدولار حتى عام 2001، ذلك عندما وصلت حصة الدولار في الاحتياطيات العالمية إلى 71.51%. ثم بدأ تراجع جديد، ونتيجة لذلك انخفضت حصة الدولار في عام 2013 إلى 61.24%. ثم في الفترة 2016-2022، بدأت دورة جديدة من ضعف الدولار: حيث انتقل من 65.36% إلى 58.36%.
وبناءً عليه، انخفضت حصة الدولار الأمريكي في الاحتياطيات الدولية بما يصل إلى 7 نقاط مئوية على مدى سبع سنوات. وخلال هذه السنوات، تكثفت الأحاديث حول موضوع تراجع الدولار بشكل كبير.
ماذا في بيانات صندوق النقد الدولي لعام 2023؟
أحدث الأرقام المنشورة في هذا السياق هي بيانات نهاية الربع الثالث لعام 2023، والصادرة عن صندوق النقد الدولي:
تبلغ حصة الدولار الأمريكي في الاحتياطيات الدولية 59.17%. واليورو 19.58%، والين الياباني 5.45%، والجنيه الإسترليني 4.85%، والدولار الكندي 2.50%، واليوان الصيني 2.37%، والدولار الأسترالي 2.02%، والفرنك السويسري 0.18%، والعملات الأخرى 3.89%.
من ينظر إلى هذه النسب قد يخرج باستنتاج مشابه لاستنتاجات أنصار فكرة أن الدولار لن يتراجع، وأن دورة جديدة من تعزيز وضع الدولار الأمريكي قد بدأت. وبالتالي، فإن الدولار الأمريكي لديه على الأقل عدد من السنوات الأخرى من الحياة قبل التراجع.
على سبيل المثال، هنالك مقال بعنوان «لماذا الدولار قوي للغاية؟»، نُشر في أواخر العام الماضي للمؤلف جيمس جيه ريكاردز، وهو محامٍ ومصرفي ومحرر في عدد من الدوريات الاقتصادية الغربية، يتمتع «بخبرة 40 عاماً» في أسواق رأس المال في وول ستريت.
يحاول ريكاردز شرح مفارقة ارتفاع قيمة الدولار في ظل «العمليات السلبية» التي تحدث في الاقتصاد الأمريكي. ويذكرنا بأهم «السلبيات»: فقد بلغت نسبة الدين الحكومي إلى الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة أعلى مستوياتها على الإطلاق، حيث اقتربت من 130% (تعتبر نسبة 30% مستوى معقول، وأي شيء أعلى من 90% سيشكل عائقاً هائلاً أمام أي نمو اقتصادي). وتعاني الولايات المتحدة من عجز في الميزانية يبلغ عدة تريليونات من الدولارات عاماً بعد عام. ووفقاً لتقديراته فإن الكونغرس والبيت الأبيض أصبحا رهينة الفكرة القديمة التي تنص على أن الولايات المتحدة قادرة على إدارة عجز غير محدود وتراكم ديون غير محدودة من دون ضرر اقتصادي لأنها قادرة على طباعة النقود بكميات غير محدودة لتمويل الديون والإنفاق. ويستشهد ريكاردز بأحدث البيانات من بلومبرغ: «تجاوزت مدفوعات الفائدة السنوية المتوقعة على ديون الحكومة الأمريكية تريليون دولار في نهاية شهر تشرين الأول. وتضاعفت تكاليف خدمة الديون خلال الأشهر التسعة عشر الماضية مع ارتفاع أسعار الفائدة الرئيسية لدى بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي».
يتساءل الكاتب: «كيف يمكن للعملة الأمريكية أن تكون قوية إلى هذا الحد في مثل هذا الوضع الكئيب؟»، وفي رأيه هنالك إجابتان عن هذا السؤال:
الإجابة الأولى هي: أن «الدولار لديه مشاكله بالطبع، لكن العملات الأخرى في وضع أسوأ منه...» ويستشهد الكاتب بالفكرة المكرورة حول أن عمليات الادخار والاكتناز ستبقى تجري بالدولار الأمريكي نتيجة ضعف وتقلب العملات الأخرى، مفترضاً ثبات وضع العملات الأخرى على ما هو عليه اليوم.
أما الإجابة الثانية فكلمة السر فيها هي مصطلح «اليورودولار». ويعرّفه ريكاردز على النحو التالي: «اليورودولار عبارة عن ودائع مقومة بالدولار، محتفظ بها في المكاتب الأجنبية للبنوك الكبرى، وبالتالي، فهي خارج نطاق سلطة الاحتياطي الفيدرالي واللوائح المصرفية الأمريكية». ويؤكد المؤلف أن بنك الاحتياطي الفيدرالي ليس له تأثير يذكر على سوق الدولار العالمي وقيمة صرف الدولار، وأن حالة الدولار الأمريكي البحت تعتمد إلى حد كبير على حالة «اليورودولار»، وحالة الأخير لا تعتمد كثيراً على حالة الاقتصاد الأمريكي بقدر ما تعتمد على اقتصادات تلك البلدان التي يولد فيها «اليورودولار». وهنا لا يقصد الدول الأوروبية فحسب، بل أيضاً كندا وأستراليا واليابان وغيرها. وباختصار، يرى أنه من غير الصحيح ربط تقييم موقف الدولار الأمريكي فقط بحالة الاقتصاد الأمريكي، بل وكذلك حالة الدول الحليفة للولايات المتحدة. وهنا مغالطة أخرى يقع فيها الكاتب، وهي افتراضه أيضاً ثبات وضع الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة، وثبات مواقفهم في ظل عالم يتغير كل يوم، ويرى فيه هؤلاء الحلفاء أن الفجوة بين مصالحهم ومصالح واشنطن تتسع بشكل كبير ومتواصل.
الوقائع أقوى من أن تغطيها الافتراضات
هذا ما يصل إليه ريكاردز نفسه، حيث يعترف في مقاله أن أسواق ما يسميها بدول «اليورودولار» وخاصة أوروبا الغربية تشهد تراجعاً كبيراً. فالبنوك العاملة في هذه الأسواق باتت تطلب ضمانات أكبر. ولم تعد تقبل ديون الشركات، أو الرهون العقارية، أو حتى سندات الخزانة الأمريكية متوسطة الأجل. والضمانة الوحيدة المقبولة بالنسبة لها اليوم هي سندات خزانة الولايات المتحدة قصيرة الأجل، وكلما كانت أقصر كان ذلك أفضل. وهذا يعني سندات لشهر واحد أو 3 أشهر أو 6 أشهر. ويخلص ريكاردز إلى أن هذا يخلق طلباً كبيراً على الدولار ويفسر جزئياً قوته الحالية، لكنه يخلق مشكلة أخرى وهي المتمثلة بنقص الدولار اللازم لسدّ هذا الطلب. وباختصار، يرى أن مشكلة الدولار هي مجرد «مشكلة فنية تقنية» لا يستطيع الشخص العادي تفسيرها...
لكن الحقيقة التي يتحاشاها الكاتب وأمثاله من أنصار فكرة أن مشكلة الدولار مؤقتة هي أن الحفاظ على الأسواق العملاقة لما يسمى بـ«اليورودولار» تتطلب جرعات هائلة من «حقن الدواء» على هيئة سندات خزانة قصيرة الأجل (وبالتالي تتطلب زيادة في الإصدارات الدولارية). ولكننا نعرف جيداً كيف سينعكس هذا على وضع الاقتصاد الأمريكي عموماً المثقل بأزمات التضخم والركود وانهيارات قطاعات الاقتصاد داخل الولايات المتحدة. لذلك، فإن الفكرة التي أوجزها هذا «الخبير» الأمريكي حول التعزيز المؤقت لمكانة الدولار في الاحتياطيات الدولية تؤدي في النهاية إلى استنتاج مفاده أن هذا سيعمق أزمة الدولار أكثر ولن يحلها!
تكمن المفارقة المضحكة أن بعد هذا الكلام كله الذي كتبه ريكاردز، قام بدعوة القراء في نهاية المقال إلى التخلص من مدخراتهم الموجودة بالدولار الأمريكي واللجوء لشراء الذهب، مؤكداً: «يجب على المستثمرين اعتبار أسعار الذهب اليوم كهدية، وربما فرصة أخيرة... إنها فرصة لشراء الذهب بهذه الأسعار قبل أن يبدأ السباق الحقيقي على الملاذات الآمنة. إن الذهب أقل من 2000 دولار رخيص بشكل لا يصدق. وأحثكم على استغلال هذه الفرصة».
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1169