حول مجموعة «بريكس» مرة أخرى.. والمقدمات لتشكيل عملة مشتركة
كما هو معلوم، ندخل العام 2024 وقد جرى توسيع رابطة «البريكس» المشتركة بشكل كبير: إلى جانب الدول المؤسسة (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا)، أصبحت المملكة العربية السعودية وإثيوبيا ومصر وإيران والإمارات العربية المتحدة أعضاء في المجموعة. والآن، باتت الحصة الإجمالية لمجموعة البريكس بعد توسيعها تتجاوز 34% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وأكثر من 20% من قيمة التجارة العالمية، و40% على الأقل من الاحتياطيات العالمية من الذهب والعملات الأجنبية.
تظهر هذه المؤشرات بالفعل أن تنسيق السياسات الاقتصادية والنقدية والمالية الخارجية من قبل هذه البلدان، إلى جانب تنفيذ المشاريع الاقتصادية المشتركة، وخاصة المشاريع ذات التقنية العالية، قادر تماماً على تشكيل نظام اقتصادي عالمي جديد بشكل جذري. مستقل أو يعتمد - بشكل طفيف- على البنى العابرة للحدود الوطنية، وبالتالي على العملات الغربية. لكن هذا «الطريق» لا يخلو بطبيعة الأحوال من بعض العوائق...
35% خلال عامين.. في حال ثبات الوضع على ما هو عليه
حتى الآن، وصلت حصة العملات الوطنية في التسويات المتبادلة بين دول البريكس إلى ما يقارب 30%، ووفقاً لتوقعات البنوك المركزية للدول المشاركة، بحلول عامي 2026/2027، من المحتمل أن تصل إلى 35% على أقل تقدير (ذلك على افتراض ثبات السياسات الرامية إلى خلق البدائل عن الدولار الأمريكي على سرعتها الحالية، ودون اتخاذ إجراءات جديدة لتسريع هذا التوجه).
ويتجلى هذا الاتجاه أيضاً في حقيقة أن «بنك التنمية الجديد» التابع لمجموعة البريكس بدأ منذ زمن يصدر بالفعل قروضاً استثمارية باليوان الصيني، ويبدأ الآن في الإقراض بعملتي جنوب إفريقيا والبرازيل، ويخطط للقيام بإصدار قروض استثمارية بالروبية الهندية. وبالإضافة إلى ذلك، سيقوم البنك قريباً بإصدار سندات دين ومقايضات العملات بالراند (جنوب أفريقيا) للإقراض في جنوب أفريقيا، وبالريال البرازيلي للبرازيل. والهدف الرئيسي للبنك هو إصدار ما يصل إلى 30% من إجمالي تمويل القروض بالعملات المحلية، لكن الإطار الزمني لحلها لم يتم تحديده بعد بشكلٍ نهائي.
النسبة الكبيرة للدولار الأمريكي ترفع مستوى التحدي
في الوقت نفسه، إذا نظرنا في الحسابات الاقتصادية الخارجية لدول مجموعة البريكس (باستثناء روسيا) مع دول ثالثة، فإن حصة الدولار الأمريكي لا تزال تبلغ الآن أكثر من 40%، واليورو حوالي 30%، والعملات الغربية الأخرى 15% على الأقل. وقد يبرر ذلك أن حصة الدولار الأمريكي في الحسابات العالمية لا تزال عند حدود 44% بحلول نهاية عام 2023، بينما كانت حصة اليورو حوالي 24%، والعملات الغربية الرئيسية الأخرى (الجنيه البريطاني، والفرنك السويسري، والين) أكثر من 15%. في حين أن هذا المؤشر لليوان لم يتجاوز 3.5%، أما العملات الوطنية لدول البريكس الأخرى فلا تزيد عن 6% (بشكل عام). وتظهر هذه النسب اعتماداً كبيراً للأنظمة المالية والاقتصادية لدول البريكس على آليات التسوية التقليدية والآليات المالية للاقتصاد العالمي ككل. الأمر الذي يزيد من مستوى التحدي للانتقال الجذري نحو نظام مالي جديد.
خلفية تاريخية لإنشاء عملة «بريكس» وتطوراتها
إذا كان هناك تغيير كبير في الاقتصاد العالمي على مدى السنوات الماضية تجدر الإشارة إليه، فهو التراجع التدريجي للإيمان بالتفوق غير المحدود للدولار الأمريكي. حيث ينخرط المجتمع الدولي بشكل متزايد في مناقشات حول التغييرات المحتملة في تكوين النظام المالي العالمي، والبعض يفترض سيناريوهات تتراوح بين «نظام ثنائي القطب يهيمن عليه الاحتكار الثنائي للدولار الأمريكي واليوان الصيني» وسيناريوهات مختلفة متعددة الأقطاب، بما في ذلك إنشاء عملة احتياطية لمجموعة بريكس، الأمر الذي يتحول اليوم إلى مركز المناقشة العالمية.
تمت صياغة المقترحات الأولية حول إنشاء عملة احتياطية جديدة تعتمد على سلة من عملات دول بريكس منذ عام 2018. وكانت الفكرة آنذاك هي إنشاء سلة عملات تتكون من العملات الوطنية لدول البريكس، بالإضافة إلى بعض العملات الأخرى لاقتصادات الدول التي تدور في فلك «بريكس+». وكان اختيار العملات الوطنية لدول البريكس يرجع إلى حقيقة أنها كانت من بين العملات الأكثر حضوراً في الأسواق الناشئة.
الإعلام الغربي: وابل من التشويش على مبادرات بريكس
تم تقديم الكثير من الحجج والادعاءات المتعلقة بعملة بريكس المشتركة مثل أن مجموعة بريكس لا تشكل منطقة عملة مثالية وإن كثافة التجارة البينية بين دول البريكس يجب أن تكون أعلى بكثير من أجل السماح بإنشاء عملة مشتركة.
لكن هذه الحجج كلها تتلاشى أمام الأرقام الحقيقية، حيث تشير الاتجاهات التي لوحظت في السنوات الأخيرة إلى انتعاش ملحوظ في التجارة البينية بين دول البريكس، مع انتعاش التجارة الثنائية بين الصين والبرازيل (تجاوز 135 مليار دولار أمريكي في عام 2021 وأكثر من 150 مليار دولار أمريكي في عام 2022، مسجلاً خمس سنوات من الأرقام القياسية المتتالية). البرازيل والهند (وصل إلى 11.5 مليار دولار أمريكي في عام 2021 (نمو أكثر من 60%) وحقق الهدف المعلن لعام 2022 البالغ 15 مليار دولار أمريكي). روسيا والهند (تجاوز 31 مليار دولار أمريكي في عام 2022، بزيادة تقارب 3 أضعاف مقارنة بعام 2021). الصين وروسيا (ما يقارب 190 مليار دولار أمريكي في 2022 مقارنة بـ147 مليار دولار أمريكي في عام 2021). حيث سجلت جميعها ارتفاعات قياسية في عام 2022 مع زيادات كبيرة على أساس سنوي. ومن المرجح أن تزداد حصة التجارة فيما بين بلدان الجنوب (وداخل دول بريكس+) مع استفادة الاقتصادات النامية من الإمكانات الكبيرة في التجارة المتبادلة عبر الابتعاد عن الدولار، حيث من المتوقع أن نشهد أرقاماً أكبر مع انتهاء حسابات عام 2023 الخاصة بدول بريكس.
إنشاء عملة مستقرة حاجة وجودية لدول «بريكس»
من أجل تسهيل وتسريع التسويات مع دول البريكس التي لا يتم تنفيذها بالدولار الأمريكي، تخطط روسيا لتعرض على المجموعة إنشاء أصول مالية رقمية (DFA) في عام 2024 - في شكل عملة مستقرة مدعومة. من خلال سلة عملات دول الكتلة.
بتعبير أدق، كما قال وزير المالية الروسي، أنطون سيلوانوف، في نهاية عام 2023، إن «أحد المواضيع التي ستعلنها وزارة المالية وتعمل عليها مع زملائنا (في البريكس خلال رئاسة الاتحاد الروسي للكتلة في عام 2024) هو إنشاء حسابات ووحدة حسابية، مما يسمح بحل مشكلات التحويل… هنالك أحد المقترحات المبتكرة: إصدار أصل مالي رقمي يعتمد على سلة معينة من عملات الدول الأعضاء في البريكس. أي عملة مستقرة مدعومة بسلة من عملات البريكس».
ويؤكد سيلوانوف بأن روسيا تواجه مشاكل فيما يتعلق بالمدفوعات بالعملات الوطنية للدول الصديقة. فإذا كان اليوان الصيني قابلاً للتحويل وكانت الحسابات فيه هي نفسها تماماً كما في العملات الأخرى القابلة للتحويل، فهناك مشكلة مع الروبية الهندية، حيث يتم تحويلها إلى روبل من خلال عملات «ثالثة»: «هذه الطريقة ناجحة وفعالة، لكن المصدّر الذي يريد تحويل إيرادات الروبية الهندية من تسليم البضائع إلى الهند، يخسر جزءاً من الأموال بسبب تكاليف التحويل». لهذا، فإن كان هنالك عملة بريكس مشتركة فإن مشكلة التحويل هذه يمكن حلها بسهولة ودون إلحاق الضرر بأي طرف.
لذلك، كما يعتقد الوزير، ثمة طلب على إنشاء عملة مستقرة مدعومة بسلة عملات الدول الأعضاء في مجموعة البريكس، «لكن هذا يحتاج إلى حلول»، لأن «هنالك الكثير من التفاصيل، والكثير من الأسئلة حول هذا المشروع والتي سوف نحتاج إلى مناقشتها مع الشركاء».
مقترح مشروع «المنصة المالية الدولية» التابعة لبريكس
تجدر الإشارة هنا إلى أنه تم اقتراح مشروع مواز في منتصف عام 2023 من جانب رئيس المجلس الإشرافي لبورصة موسكو، سيرجي شفيتسوف. وهي فكرة تتمثل في «إنشاء منصة دولية معتمدة على دول البريكس»، والتي ينبغي أن تصبح «بديلاً لمنظمات المحاسبة الدولية، مثل نظائر نظام سويفت، ويجب أن تكون منصة مفتوحة». وفي نهاية عام 2023، تم إرسال المشروع، الذي يرتبط إلى حد ما بالروبل غير النقدي القابل للتحويل وتداوله في بلدان مجلس التعاون الاقتصادي CMEA السابق، إلى الجهات التنظيمية المتخصصة في دول البريكس».
النموذج الروسي الإيراني: التحدي ممكن بتوفر الإرادة
باختصار، ثمة عدد كبير من العوامل المترابطة التي تحدد مسبقاً الطبيعة الإشكالية لإنشاء عملة نقدية واحدة، وخاصة عملة نقدية واحدة لدول البريكس. ولكن مع أخذ هذه العوامل في الاعتبار، فإن خيارات العملة المشتركة وآلية التسوية لهذه المجموعة ممكنة، والتي، كما نرى اليوم، فهي قيد الإعداد، ومن الممكن أن «تنبثق» أيضاً من أشكال التفاعل الثنائي بين الدول.
وهكذا، في أوائل كانون الثاني، انتهت فعلياً عملية ربط نظام نقل الرسائل المالية لبنوك روسيا وإيران، والتي يمكنها الآن إجراء المعاملات مباشرة. حيث لم تعد البنوك من البلدين بحاجة إلى الرابط السويسري في التسويات بين بعضها، وصار يمكن للبنوك التجارية أن تقيم علاقات وسيط مع بعضها على نحوٍ مباشر.
في هذا الصدد، قال نائب رئيس البنك المركزي الإيراني للشؤون الدولية، محسن كريمي، إن المصدّر يمكنه إصدار فاتورة للجانب الروسي بالريال الإيراني واستلام الأموال من البنوك الروسية في إيران. بالإضافة إلى ذلك، يمكن لمصدّري البلدين إجراء التسويات بالعملات الوطنية، الأمر الذي يتطلب دعماً مصرفياً أكثر تقدماً، بعيداً عن المنصات الغربية المسيسة.
حتى إنتاج النفط: لم يعد غربياً بالمطلق
انضمام أكبر الدول المنتجة للنفط في منطقة الخليج - السعودية وإيران والإمارات - إلى دول البريكس له أهمية خاصة بصدد إنشاء نظام مالي واقتصادي عالمي أكثر عدلاً وإنصافاً، وبالتالي، ضمان تنمية عادلة في الدول غير الخاضعة لشروط العالم الغربي. والآن باتت تحوز مجموعة بريكس ما يزيد عن 80% من إجمالي إنتاج النفط العالمي. وتتاجر روسيا عملياً بالنفط مع دول أخرى باستخدام العملات الوطنية، والسعودية والإمارات في طور الانتقال بنشاط إلى مثل هذه التجارة. بينما تبيع إيران بالفعل كمية كبيرة من النفط باستخدام عملات أخرى غير الدولار الأمريكي. وتتزايد تدريجياً حصة تسويات اليوان في تجارة كل من السعودية وإيران مع الصين، وهي أكبر مستهلك للمواد الخام الهيدروكربونية.
نتيجة لذلك، يتم تعزيز آليات التسوية غير الدولارية لمجموعة بريكس في إطار البنى المالية والمصرفية الدولية التابعة للمجموعة، والتي أصبحت جذابة للدول الأخرى الراغبة بالتفلت من هيمنة الغرب، وهي الدول ذاتها التي يتم تقييد تنميتها بشكل مصطنع بفعل القيود الغربية.
آفاق وتحضيرات لمؤتمر بريكس المقبل في كازان
جدير بالذكر أن بنك تنمية البريكس الجديد ينفذ المشاريع دون الرجوع إلى الدولار، حيث أن ما يقارب ربع قروضه تصدر بالعملة المحلية، كما أن انضمام السعودية والإمارات إلى قوام مجموعة بريكس سيزيد من تدفقات رأس المال بشكلٍ طبيعي.
وعلى الرغم من أن هذه القروض لا تشكل تهديداً حاسماً لهيمنة الدولار في الوقت الحالي، إلا أنها «تمثل خطوة أولى نحو إنشاء تدفقات نقدية منفصلة لا تخضع للعقوبات الغربية، الأمريكية تحديداً».
بطبيعة الحال، على مدى عقود من التنمية الاقتصادية النشطة والتفاعل بين الدول، اكتسب المشاركون في مجموعة «البريكس+» خبرة كبيرة، والتي، مع الفهم السليم والتطبيق العملي المناسب، يمكن أن تخلق بديلاً فعالاً للنظام المالي الدولي الغربي والبنى المالية العاملة تحت إملاءات الاستعمار الغربي.
وهنالك أيضاً اقتراحات بشأن إنشاء فريق خبراء دولي بناءً على النتائج المتوقعة لقمة البريكس المقبلة في كازان (عاصمة جمهورية تتارستان الروسية)، والمصممة للبدء في تطوير نموذج للعملة الجديدة، والتي بدونها سيتم تنفيذ مشاريع البنية التحتية والطاقة والمالية المشتركة داخل البريكس على أرضية غير مستقرة خاضعة بشكلٍ متواصل لهيمنة الغرب وعرقلاته الدائمة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1158