طريق بديل لعالم جديد: «شمال جنوب» يربط الصين وروسيا والهند وإيران 2/2
في العدد السابق، ناقشنا الأسباب التي أدت إلى تأسيس فكرة مشروع مركز التجارة الدولية «شمال - جنوب»، وكيف أن العقوبات الغربية على روسيا والدول التي تعارض السيطرة الأمريكية قد دفعت هذه الدول إلى البحث عن بدائل، بما في ذلك فيما يخص ممرات النقل. كما تطرقنا إلى التوجهات الرئيسية لتطوير مركز التجارة الدولية «شمال - جنوب». في هذا العدد، نستمر في مناقشتنا ونركز على كيفية تأثير الوضع الجيوسياسي على هذا المشروع، ونستعرض التوقعات والتحديات المستقبلية المرتبطة به.
نتيجة للتحولات الجيوسياسية، تواجه طرق النقل التقليدية الإغلاق، مما يجعل الطرق اللوجستية الحديثة أكثر أهمية. مشروع مركز التجارة الدولية «شمال جنوب» يبرز كأحد هذه الطرق الجديدة المهمة.
التطورات الأخيرة في السياسة العالمية أدت إلى تناقص حركة البضائع في منطقة البحر الأسود وآزوف والبلطيق. ويُلاحظ انخفاض مماثل في حركة النقل البري والسكك الحديدية في هذه المناطق. هذا الوضع دفع روسيا إلى إعادة توجيه تركيزها نحو أسواق شرق آسيا، وهذا يتضمن الاستفادة من مركز التجارة الدولية «شمال جنوب».
العمل على قدم وساق لتعزيز الربط
من أجل التشغيل الفعّال والدائم لممر النقل هذا، من الضروري تنظيم محطات كبيرة وشبكة واحدة من المشغلين، أي أولاً وقبل كل شيء، من الضروري تحديث الموانئ الموجودة بالفعل في الدول المشاركة في المشروع. ومن المفترض، أن ميناء محج قلعة الروسي سيصبح عنصراً يربط جنوب روسيا مع دول آسيا الوسطى عبر القوقاز وإيران. بالإضافة إلى ذلك، لدى روسيا خطة لبناء محطة للحبوب التي يمكن أن تصبح نقطة إعادة شحن إلى دول شرق المتوسط وشمال أفريقيا.
في هذا الصدد، يخضع ميناء أوليا في منطقة أستراخان أيضاً لإعادة الهيكلة. وفي أيار 2022، تم اتخاذ قرار بإنشاء منطقة اقتصادية خاصة فيها.
في هذه المنطقة، من المخطط بناء محطة بحرية حديثة لنقل البضائع والحبوب عبر بحر قزوين. حيث تعتبر موانئ أستراخان ومحج قلعة وأوليا مهمة لاستقرار التجارة بين روسيا وإيران وتركمانستان.
ولتكثيف النقل على طول هذا الممر، أعدت مذكرة تفاهم بين الدول المشاركة في مجال العبور والنقل. في عام 2022، وقعت روسيا مذكرات مع إيران وتركمانستان، وبعد ذلك مع إيران وأذربيجان. والمفاوضات جارية حالياً مع الهند. وستساعد هذه الاتفاقات على التغلب على الخلافات في المسائل القانونية بشأن مركز التجارة الدولية بين الشمال والجنوب.
العقوبات الغربية ترفع أهمية الطرق البديلة دولياً
المشروع ضخم، حيث أن المحطات الجديدة على الأراضي الروسية لن تكون قادرة فقط على استقبال شحنات جديدة من دول أخرى، ولكن أيضاً على تصدير السلع المحلية على طول الطرق البرية. وتعمل إيران أيضاً على نظام مماثل: حيث من المخطط بناء مركز أساسي مهمته التركيز على دول شرق المتوسط، أي أن إيران ستصبح دولة عبور رئيسية للطرق نحو أفغانستان وباكستان وكذلك غرباً نحو سورية.
كما يفتح المشروع فرصاً لتركيا، التي سيكون لديها طرق جديدة لنقل البضائع إلى كل من روسيا وأوروبا. في بداية عام 2022، أبدت هيئة السكك الحديدية الروسية اهتماماً بتحسين البنية التحتية لبحر قزوين، وأجرت الشركات اختباراً للبضائع على طول اتجاهات الطريق.
في أيار 2023، وبعد فرض مجموعة أخرى من العقوبات، أصبح المسار أكثر أهمية. حيث ارتفعت توقعات متوسط التحميل اليومي للبضائع في اتجاه بحر قزوين في تموز بمقدار 4.7 مرة مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق. وكان معظم الشحن للتصدير. كما زاد حجم حركة المرور عبر ميناء أوليا 4 مرات. وحتى الآن، تم التوقيع على نحو 30 اتفاقاً بشأن نقل البضائع على طول ممر النقل الدولي.
يأتي التصدير الرئيسي للبضائع من روسيا وجزئياً من بيلاروسيا: المواد الكيميائية المنزلية والألياف الاصطناعية والفواكه المجففة والمنتجات الكيماوية والسيراميك. حيث يسبب الوضع الاقتصادي الحالي اهتماماً متزايداً بالمشروع، ويذكره ممثلو الدول بشكل متزايد.
الغرب يبني الجدران.. والقوى الصاعدة تذللها
من المتوقع أنه بحلول عام 2030 سيتضاعف تقريباً حجم البضائع الروسية عبر مركز التجارة الدولية «شمال جنوب»، ليرتفع من 17 إلى 32 مليون طن. وسيجري هذا الارتفاع بشكل أساسي عبر الطريق الغربي الذي يمر عبر أذربيجان.
في 27 تشرين الأول 2022، أشار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، متحدثاً في الاجتماع السنوي الـ19 لنادي فالداي الدولي للمناقشة، إلى دور مشروع الشمال والجنوب في تطوير البنية التحتية الروسية وتعزيز دور روسيا في الاقتصاد العالمي، وشدد على أنه «متأكد من أن خطط التعاون المتعدد الأطراف بشأن تنفيذ ممرات النقل بين الشمال والجنوب والعديد من المشاريع الأخرى في هذا الجزء من العالم هي بداية حقبة جديدة، ومرحلة جديدة في تنمية أوراسيا».
بدوره، أكد العالم السياسي البيلاروسي، أ. دزيرمان، على أهمية مركز التجارة الدولية «شمال جنوب» في تطوير العلاقات الاقتصادية والسياسية في بيلاروسيا: «الغرب في الواقع يبني جدراناً حقيقية، ويرتب الحصار، ويضغط العقوبات على جمهورية بيلاروسيا وروسيا. لهذا، يكتسب الممر بين الشمال والجنوب الآن أهمية كبيرة من حيث الخدمات اللوجستية والمالية».
التحديات موجودة.. والإرادة لحلها موجودة أيضاً!
يواجه المشروع بعض التحديات التي تمنعه من استغلال الإمكانات الكاملة لممر النقل الدولي. أكبرها هو انخفاض قدرة البنية التحتية للنقل في البلدان المشاركة. ومع ذلك، فإن أهمية المشروع آخذة في الازدياد، ما يجعل من الممكن تعزيز إطار النقل الأوراسي في الاتجاهين بين الشرق والغرب والشمال والجنوب، لأن هذا سيقلل من تكاليف التصدير ويسمح للبلدان المشاركة بتحقيق إمكاناتها الكاملة. كما أن الانتهاء من بناء جزء من سكة حديد رشت-أستار في إيران سيكون إضافة واضحة للمشروع.
ومن المهم أن تأخذ البلدان المشاركة في المشروع في الاعتبار الانخفاض غير المرغوب فيه في حجم عمل مركز التجارة الدولية بين الشمال والجنوب في حالة بدء مشاريع النقل البديلة في زيادة المزايا التنافسية. حيث قد تأتي تحديات مركز التجارة الدولية من التغيرات في الوضع الدولي أو التغييرات في موقف البلدان الرئيسية المشاركة في المشروع. ويجب أن يؤخذ في الاعتبار أيضاً أن مشاكل تطوير ممر النقل بين الشمال والجنوب لا تكمن فقط في الجوانب التقنية والبنية التحتية والقانونية، ولكن أيضاً في مسائل الوضع العسكري والسياسي في مناطق المشروع: طالبان في أفغانستان، والإرهابيون في وسط وجنوب شرق آسيا، والتوتر حول إيران، والتهديد بفرض عقوبات غربية جديدة فيما يتعلق بالتعاون بين روسيا وإيران. فهذا لا يخلق مخاطر للمستثمرين فحسب، بل أيضاً للدول المشاركة في المشروع. وتعاني تركيا أيضاً من صعوبات اقتصادية حيث بلغ التضخم السنوي فيها اعتباراً من 4 كانون الأول 2022 حوالي 84.39%.
لكن، على الرغم من ضغوط العقوبات من الدول الغربية ورفض التعاون مع روسيا، فإن المشاركين في مركز التجارة الدولية مستعدون لتعميقها في التجارة، وكذلك لتنويع الصادرات وجذب الاستثمار. حيث سيضمن تعزيز دور روسيا كشريك موثوق به تحسين التنمية الاقتصادية الاجتماعية لهذه الدول، وتعزيز الاستقرار والأمن في الفضاء الأوراسي.
الوضع الجيوسياسي يرفع حظوظ المشاريع البديلة
تجدر الإشارة إلى أنه من أجل تعزيز قوة مركز التجارة الدولية «شمال جنوب» ومشاريع أخرى مماثلة، من الضروري عقد أحداث مثل المنتدى الاقتصادي الشرقي في فلاديفوستوك. فعلى سبيل المثال، جمع المنتدى الاقتصادي في خريف عام 2022 مشاركين من 68 دولة، واقترب الحجم الإجمالي للعقود الموقعة من 3.3 تريليون روبل. وكانت المواضيع الرئيسية هي بحث إمكانيات المدفوعات عبر الحدود بدون سويفت، والتحديات عند العمل مع شركاء جدد من منطقة آسيا والمحيط الهادئ، ومشاكل تطوير صناعات التكنولوجيا الفائقة.
وبالتالي، من الضروري التأكيد على أن مركز التجارة الدولية «شمال جنوب» هو طريق نقل فريد وواعد ومطلوب بشدة للعالم اليوم، وهو الذي يمتد من ميناء نافا شيفا الهندي عبر إيران إلى سانت بطرسبرغ (7200 كم) باستخدام النقل البحري والنهري والسكك الحديدية. وعلى الرغم من العقوبات غير المسبوقة التي فرضها الغرب بقيادة الولايات المتحدة، فإن الأنشطة داخل مركز التجارة الدولية «شمال جنوب» قد تكثفت مؤخراً. ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى الحادث الذي وقع في قناة السويس، عندما جنحت السفينة العملاقة إيفر غرين في آذار 2021 وعلى متنها 18,000 حاوية، ما أدى إلى أن علقت 450 سفينة في ازدحام المرور. وقدرت فترة توقفها بنحو 10 مليارات دولار في اليوم. استغرق الأمر ما يقارب الأسبوع لفتح القناة. وقد أدى انهيار النقل هذا إلى سلسلة كاملة من المؤتمرات والمفاوضات والمشاورات لتكثيف عمل مركز التجارة الدولية «شمال جنوب».
ومع بدء العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا العام الماضي، وفي ظل ظروف العقوبات الأكثر صرامة ضد روسيا التي تلت ذلك، اكتسب ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب أهمية خاصة للاقتصاد الروسي واقتصادات الدول الصاعدة. وهنالك الكثير من العمل الذي يتعين القيام به لتطويره، ولكن هنالك ثقة في أن المشاكل سيتم حلها، وسيتم التغلب على الصعوبات، وسيصبح ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب بالفعل أهم رابط بين روسيا والدول المستعدة للتجارة والتعاون معها.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1154