اقتصاديو «الخُضر» في ألمانيا: ليسوا خُضراً ولا يهمهم الاقتصاد!

ترجمة: قاسيون

إن الناطق الرئيسي للخطاب المناخي في ألمانيا هو حزب الخضر سيئ السمعة. حتى شعارهم الرئيسي يتطلب تبعية القضايا الأخرى بشكل مطلق للإجراءات الصحيحة بيئياً، والذي يمكن ترجمته بشكل فضفاض على أنّه «المناخ دون شروط أو تحفظات». السمة المعلنة لبرنامجهم السياسي هي محاولة الجمع بين التوجه الاجتماعي واقتصاد السوق، وسيطرة الدولة على حماية الطبيعة.
حتى قبل الدخول في التفاصيل، يمكننا أن نبدأ بفهم الفوضى التي يعيشها هؤلاء الناس في رؤوسهم. حتى الشخص البعيد عن معرفة القوانين الاقتصادية يفهم أن الرغبة في تحقيق الربح في كل شيء، وفي كل مكان هي أساس اقتصاد السوق، وأنّ هذا يتعارض بشكل مباشر مع التوجه الاجتماعي أو الاهتمام بالبيئة. ورغم أنّ اقتصاديي حزب الخُضر الألمان لم يقرؤوا بوشكين على الأرجح، لكنّ قوله الكلاسيكي مفيد هنا: «في عربة واحدة، من المستحيل وضع اللجام لحصان وظبية ترتجف»!
حسناً، إذا بحثنا قليلاً في تاريخ إنشاء حزب الخُضر في ألمانيا، يصبح كل شيء واضحاً للغاية. رسمياً، تأسس هذا الحزب في عام 1979. وكان ظهوره في الساحة السياسية محدداً مسبقاً إلى حد كبير بجمع شتات ما يسمّى بـ «اليسار الجديد»، أي الأشخاص الذين اعتنقوا الأفكار الماركسية، لكنهم في الوقت نفسه أدانوا الدول الاشتراكية التي كانت موجودة في ذلك الوقت: الاتحاد السوفييتي والصين وكوريا الشمالية.
في عموم الأمر، فإن فكرة الإنكار هذه، بما في ذلك إنكار المنطق السليم في بعض الأحيان، سارت كخطّ مميّز على طول التاريخ السياسي لحزب الخُضر. رأى الآباء المؤسسون في أنّ مؤسستهم هي كيان بمثابة «المناهض للحزب»، حيث رفضوا الرأسمالية الغربية تماماً. لقد كانوا هيبيين بالغين، وكان معنى حياتهم هو معارضة المجتمع البرجوازي. على ما يبدو، هذا هو السبب وراء تمكّن الخُضر من توحيد اليساريين والفوضويين الأوروبيين تحت راية واحدة مع الليبراليين- اليساريين من جهة، ومع دعاة السلام المسيحيين من جهة أخرى، بل وحتى بعض ممثلي الطيف السياسي اليميني الألماني.
من المهم أن نلاحظ، أن قضايا المناخ تم اختيارها لتكون الوجه الرائد والمحدد للحزب، ليس بسبب الانغماس العميق في الرسالة البيئية لقادة الحركة السياسية الجديدة، ولكن فقط بسبب شعبية هذا الموضوع بين الشباب في البلاد في منتصف السبعينيات من القرن الماضي. في ذلك الوقت، كان من المألوف جداً بين الهيبيين التحدث علناً ضد الحرب والقنبلة الذرية كرمز رئيسي لهم، وبالتالي رفض الطاقة الذرية بشكل عام، الشعار الذي حمله الخُضر على مر السنين، وكذلك ضد التلوث البيئي. وكلّ ذلك بروح «المثالية» الغربية في تلك الأيام.
وبعد أن ترك المحافظون الحزب في عام 1982، تبلورت عقيدته السياسية في رسالة احتجاجية أكثر وضوحًا: المسار الاقتصادي ليسار الوسط، والسلمية، والحياد «طالب الخُضر برفض نشر الصواريخ الأمريكية في ألمانيا وانسحاب ألمانيا من الناتو، وبالأممية، وإلغاء القيود المفروضة على الهجرة، والتربية التحررية، وتشريع الماريجوانا، والحق في تقرير المصير، وحق الإجهاض وزواج المثليين.

مجرّد ليبراليين متخفين

بشكل عام، إذا قمت باستبعاد النداءات المناهضة للحرب من القائمة، فستحصل على مجموعة من الكليشيهات اليسارية- الليبرالية الحديثة مع التركيز على حقوق الأقليات. لكنّ حزب الخُضر الألماني لم يستمر برفض الحرب. وبدلاً من ذلك، اتخذوا فجأة مسار العسكرة، والتدخل النشط لكتلة الناتو في شؤون الدول الأخرى. في حينه، تحوّل العضو النشط في مجموعة «النضال الثوري» اليسارية يوشكا فيشر، الذي أصبح رئيس حزب الخضر، ثم نائب المستشار ووزير الخارجية في حكومة غيرهارد شرودر، تحول في مرحلة ما حرفياً إلى أحد الصقور، حيث وجّه كل طاقته «الراديكالية» التي لم تستنفد بالكامل للترويج لفكرة استخدام قوة حلف الناتو في يوغوسلافيا وأفغانستان. أليست «شقلبة» سيئة للهيبي السابق؟ بالمناسبة، فإن زميلته في الحزب ووزيرة الخارجية الألمانية الحالية أنالينا بوربوك شاركت أيضاً في المظاهرات المناهضة للطاقة النووية مع والديها في شبابها، بل ووقفت في «سلسلة بشرية» ضد سباق التسلح، وهو ما لا يمنعها اليوم من أن تكون واحدة من المدافعين الرئيسيين عن عملية إرسال الأسلحة الألمانية إلى أوكرانيا!
لكن ربّما تتساءل، أين هي أجندة المناخ والاقتصاد الاجتماعي من كلّ هذا، والتي يبدو أن كل شيء قد بدأ من أجلها؟ لكن في أي مكان تختبئ؟ لكي نكون أكثر دقة، فقد تم الحفاظ على جدول الأعمال جزئياً، لكنّ جوهره بعيدٌ عن الجوهر الأصلي.
لم يعد الخُضر في ألمانيا يعترضون على نشر الأسلحة النووية الأمريكية في بلادهم، لكنهم نجحوا في إغلاق جميع محطات الطاقة النووية الألمانية التي كانت واحدة من أكثر محطات الطاقة النووية صديقة للبيئة في العالم، وبكلّ الأحوال هي أفضل من محطات توليد الطاقة التي تعمل بالفحم. الأكثر من ذلك أنّه خلال الأزمة، كانت حكومة شولتس، التي كانت نائبته هي روبرت هابيك: خضراء أخرى، موافقة على اضطرار ألمانيا لشراء الكهرباء المولّدة من محطات الطاقة النووية الفرنسية!
لا يبدو أنّ اقتصاديي الخُضر الألمان يهمّهم أنّ المستهلك الألماني، الذي وعدوه بأنّ حزبهم سيعالج له قضايا الرعاية والعدالة الاجتماعية بشكل عام، يدفع ثلاثة أضعاف السعر الذي يجب أن يدفعه مقابل الكهرباء. فقط في أذهان هؤلاء الاقتصاديين الخُضر، صورة العالم تقترب من المثالية!
غني عن القول، بالنسبة لبلد مثل ألمانيا، حيث جميع وسائل النقل التجارية تتم عن طريق البر، ويضطر السكان دائماً إلى استخدام السيارات الخاصة، نظراً لأن شبكة النقل العام في المناطق الحضرية وبين المدن ضعيفة للغاية، فإنّ عدم توفير الطاقة الرخيصة والبنزين زهيد الثمن هو ضربة حقيقية لمحافظهم. وإذا ما أردنا أن نحصي نجاحات اقتصاديي الخُضر قياساً بهذه المحافظ، سنرى بأنّ أكثر شرائح السكان غير محميّة مالياً. لا يبدو أنّ العدالة الاجتماعية حاضرة هنا.
حتى اليوم، فإنّ حزب الخُضر الألماني أكثر اهتماماً بحصص الأقليات، وحقوق المثليين، والبصمة الكربونية، والطاقة الخضراء، وثقوب الأوزون، والاحتباس الحراري، وكل هراء اليسار الليبرالي الذي لا علاقة له بالحياة الاقتصادية الحقيقية للألمان، أو حماية البيئة والكوكب الفعلية. كمثال: تمّت تغطية موضوع «إعادة التدوير» لشفرات توربينات الرياح الخضراء المحبوبة في الصحافة أكثر من مرة، لكن حياة الألمان العاديين اليومية سقطت من الاهتمام، ناهيك عن عدم تأثير ذلك عليها.
كانت الأجندة البيئية لفترة طويلة مجرد وسيلة للاختباء من الاستحقاقات السياسية، وأصبحت اليوم بمثابة بعبع يلوح بها اليساريون- الليبراليون للترويج لأفكارهم الجديدة. يتمّ صياغة هذه الأجندة وكأنّ الأشخاص وراءها لا يفهمون، أو لا يهمّهم اقتصاد ألمانيا، أو الحياة الاجتماعية للألمان.