إزالة الدولرة في التجارة والاتجاه المتصاعد للتعاون الروسي العربي
على خلفية الآثار الناجمة عن تصاعد العقوبات الغربية ضد روسيا، أصبحت المهمة الرئيسية أمام اقتصادها الوطني هي البحث عن طرق بديلة للتعامل مع القوى الاقتصادية في الخارج، وذلك بالتوازي مع إلغاء الارتباط القديم بالدولار الأمريكي واليورو، بكل ما يواجهه فكّ الارتباط هذا من صعوبات تحتاج إلى حلول مرنة وسريعة وفعالة.
كإجراءٍ وقائي بدأ بعد بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، اتخذت روسيا قرارها في 1 نيسان 2022، بأن تتم جميع مدفوعات إمدادات الغاز عبر خطوط الأنابيب إلى «الدول غير الصديقة» بالروبل الروسي.
وبحلول شهر أيار 2023، كان الروبل - وفقاً لبنك روسيا- يمثل 49.8% من مدفوعات الصادرات الذاهبة من الاتحاد الروسي إلى أوروبا (مقابل 45.1% بعملات الدول غير الصديقة لروسيا). وكانت الأرقام في آسيا 36.3% بالروبل مقابل 30.2% بعملات الدول الآسيوية، وبالنسبة لأفريقيا كانت المدفوعات 24.2% بالروبل مقابل 58.9% بالعملات المحلية الأفريقية. بينما انخفضت الحصة الإجمالية للتسويات بالدولار واليورو في واردات روسيا من كانون الثاني 2022 إلى شهر أيار 2023 من 67.3% إلى 35.9%.
بدايات الاتجاه المتصاعد للتعاون الروسي العربي
تتوافق ضرورة التخلي عن الدولار واليورو لمصلحة العملات الوطنية في التسويات مع الحلفاء والشركاء مع مفهوم السياسة الخارجية للاتحاد الروسي الذي تمّ اعتماده في 31 آذار 2023. وهذا يشمل الاتجاه نحو منطقة الشرق الأوسط، وذلك رغم أن هذه المنطقة لم تكن تمثل قبل العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا أكثر من 9% من الصادرات الروسية و3% من الواردات.
والأكيد أنه ليس من قبيل المصادفة أنه في 18 كانون الثاني 2023، تم إدراج عملات ثلاث دول عربية (الدرهم الإماراتي والريال القطري والجنيه المصري) في وقتٍ واحد من جانب بنك روسيا في قائمة العملات المعتمدة لتحديد سعر الصرف اليومي مقابل الروبل، والأمر الذي عكس زيادة فعلية في حجم التداول مع هذه العملات.
الجميع له مصلحة بالبحث عن بدائل للدولار الأمريكي
من أجل تقييم آفاق الانتقال إلى نماذج جديدة للتسويات بين روسيا والدول العربية، من الضروري وصف التحديات والفرص التي تتعلق بكل من روسيا وشركاءها العرب على حد سواء.
أولاً، من المهم للطرفين أن يصبح الاتجاه نحو «تآكل» هيمنة العملة الأمريكية لمدة 80 عاماً اتجاهاً عالمياً، الأمر الذي يفتح آفاقاً لإدخال خطط تمويل بديلة. وقد أدت الأزمة الأوكرانية إلى تسريع هذه العملية. وخير مثال على ذلك هو اليوان الصيني، الذي زادت حصته في المعاملات من 0.63% في 2013 إلى 3.2% 2022، مما رفع الصين من المركز 13 إلى 4 في ترتيب تداول العملات - بعد الدولار واليورو والجنيه الإسترليني. وعليه، شهدنا أول صفقة مقوّمة باليوان لتوريد الغاز الطبيعي المسال إلى الصين من الإمارات، والتي تم إبرامها في شهر آذار 2023 في بورصة شنغهاي للنفط والغاز، بوصفها حدثاً بارزاً.
وثمة اهتمام متزايد من المشاركين في التجارة الخارجية بالعملات المشفرة، حيث كان الإيرانيون أول من حاول الاستفادة من ذلك. ففي عام 2018، أي مباشرة بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني، أعلن البنك المركزي الإيراني عن إطلاق عملة مشفرة قائمة على الريال، والتي تم استخدامها لتمويل الصادرات والواردات منذ عام 2019. وفي الفترة بين بداية 2019 و2022، تم إجراء معاملات بقيمة 8 مليارات دولار من خلال بورصة Binance، متجاوزة العقوبات الأمريكية.
ولوحظ اتجاه مماثل في روسيا ، حيث تلقى مجلس الدوما في 18 تشرين الأول 2022 مشروع قانون ينظم تعدين العملات المشفرة. ويمكن العثور على نفس الوضع في العالم العربي، حيث أعلنت السعودية والإمارات تباعاً نية بلادهما في أن تصبح مركزاً للعملات المشفرة.
الصعوبات موجودة لكن الأرضية للاتفاق حاضرة
لا يعني اتجاه الدولار نحو التراجع أنه لا توجد تحديات قد تمنع العملات الأخرى من تعزيز مواقعها. حيث أظهرت تجربة النصف الثاني من القرن العشرين وأوائل القرن الواحد والعشرين أن انتقال النشاط الاقتصادي الأجنبي إلى العملات الوطنية والمقاصة لا يتطلب فقط الإرادة السياسية، ولكن أيضاً الظروف الاقتصادية. فالشيء الرئيسي فيما يتعلق بالمقاصة (أي عندما لا تعبر الأموال الحدود، وهو أمر لا غنى عنه لتجنب العقوبات)، هو ميزان الصادرات والواردات بالنسبة لطرفي عميلة التبادل، وهو الأمر الذي يتفاوت بين دولة وأخرى حتى وإن كانت تجمعها مصلحة مشتركة في التخلي عن الدولار الأمريكي.
الأمر الذي تجدر الإشارة له هو أن الجانب الروسي يعمل بانسجام تام تقريباً مع الدول العربية. على سبيل المثال، في مسألة العملة الرقمية الوطنية المعدة للتبادل مع الخارج، فإن ثمة اتفاق نظري على أن مصدرها، على عكس العملة المشفرة، هو جهاز الدولة في كل بلد. وهذا العام، من المقرر إدخال الروبل الرقمي حيز التنفيذ، بينما تتبع السعودية والإمارات مساراً مماثلاً (مثل مشاريع عابر، والجسر، والدرهم الرقمي).
الاتحاد الاقتصادي الأوراسي يزيد فرص العرب
في عام 2022، تم إصدار بطاقات نظام الدفع ArCa في أرمينيا والتي تعمل مع نظام الدفع MIR الروسي، والذي بدوره تم تثبيته مع نظام Belkart البيلاروسي. كما تم الانتهاء من دمج نظام Elkart القيرغيزي مع أنظمة ArCa وBelkart وMIR. وهذا يزيد من جاذبية الاتحاد الاقتصادي الأوراسي للدول العربية في ضوء مصلحتها المشتركة في الفضاء الجيوسياسي لأوراسيا.
منذ عام 2019، جرت خمس جولات من المفاوضات بين مصر والاتحاد الاقتصادي الأوراسي حول إبرام اتفاقية بشأن منطقة تجارة حرة - على غرار الوثيقة مع صربيا، والتي دخلت حيز التنفيذ في عام 2021. ويستمر العمل على اتفاقية التجارة الحرة بين الاتحاد الاقتصادي الأوراسي والإمارات العربية المتحدة، والتي تقترح وزارة التنمية الاقتصادية الروسية استكمالها باتفاقية ثنائية حول التجارة في الخدمات والاستثمار.
ومن المفيد على وجه الخصوص النظر إلى التجارة الروسية العربية من زاوية الإمكانات التي تحملها منظمة شنغهاي للتعاون. فمن بين المنظمات الأوراسية كلها، منظمة شنغهاي للتعاون هي الأكثر أهمية للعرب، وخاصة دول مجلس التعاون الخليجي، وذلك بفضل التنوع الكبير فيها والقائمة الكبيرة من الدول التي تجمعها الرغبة بإخراج المنطقة الأوراسية من أنياب الولايات المتحدة.
منذ شهر أيلول 2022، كانت مصر وقطر دولتين شريكتين في حوار منظمة شنغهاي للتعاون. انضمت إليهم المملكة العربية السعودية في آذار 2023، تليها الكويت والإمارات العربية المتحدة في أيار. ثم البحرين تالياً. وقد تقدمت دول أخرى مثل العراق والجزائر بطلب للمشاركة في منظمة شنغهاي للتعاون بصفة مراقب.
احتمالات وآفاق التعاون مع «شنغهاي للتعاون» و«بريكس»
رغم وجود الإرادة السياسية، فإن مصالح أعضاء منظمة شنغهاي للتعاون لم تسمح حتى بإنشاء منصة مشتركة لتمويل النشاط الاقتصادي الأجنبي (رغم أن التفاوض على هذه النقطة قد قطع أشواطاً كبرى، ومرشح ليثمر في المدى القريب المنظور بحكم تسارع تطور الأحداث وتسارع رغبة الدول بالإفلات من تبعات التراجع الأمريكي).
وفي هذا الصدد، فإن الشراكة مع دول مجلس التعاون الخليجي التي تملك رؤوس أموال وفيرة باحثة عن استثمارات مستقرة ومربحة في آن معاً، ستجعل من الممكن تحقيق فكرة إنشاء صندوق لمنظمة شنغهاي للتعاون لتحفيز الاستثمار، وهو الأمر الذي تم دعمه من حيث المبدأ من قبل روسيا.
ومع اقتراب قمة مجموعة دول بريكس المقبلة في جوهانسبورغ في جنوب أفريقيا، ترتفع إمكانات التعاون في القطاع المالي التي تراكمت عبر السنوات بين دول المجموعة، وهي إمكانات كبيرة لا شكّ أنها تجذب انتباه العرب، كما في حالة منظمة شنغهاي للتعاون والاتحاد الاقتصادي الأوراسي، (حيث تم تقديم طلبات الانضمام إلى بريكس من قبل الجزائر ومصر والبحرين والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة).
وبالتوازي مع الحديث عن عملة بريكس المشتركة التي يتم بحثها، إلا أن الأمر الأقرب للتحقق، وهو إنشاء نظام دفع رقمي متكامل يحمل اسم (BRICS Pay)، والذي يسمح بإجراء المعاملات دون الحاجة إلى تحويل العملات الوطنية إلى دولار كفيل لوحده بضمان الرغبة العربية بالاستفادة من هذا النظام. حيث تشكل الأموال بالعملات الوطنية حاليا 22% فقط من رأس مال بنك التنمية الجديد الذي أنشأته مجموعة بريكس في عام 2014. ومنذ عام 2019، تتم مناقشة إمكانية استخدام العملة الرقمية المشتركة لدول البريكس، وقد حان الوقت لذلك وترتفع الضرورة اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى لهذه العملة.
عوامل لضمان التعاون وتجنب نقاط الضعف
ما هي الإجراءات التي يمكن أن تساعد في حل مشاكل إقامة التجارة الخارجية بين روسيا والعالم العربي في ظل الوضع الصعب الحالي؟ يقدم الخبراء مجموعة من الأفكار، أهمها:
1. استخدام العملات الوطنية للدول العربية، والتي تعتبر مفيدة من حيث خصائصها، كوسيلة للدفع في التجارة الثنائية بين روسيا والدول الأخرى. على سبيل المثال، استخدم الدرهم الإماراتي في التجارة الروسية الهندية لتجنب «فخ عدم التوازن» بين الصادرات والواردات. واعتباراً من 4 نيسان من هذا العام، بدأ التداول في العقود الآجلة باستخدام أزواج العملات الدرهم الإماراتي والروبل الروسي والروبية الهندية والروبل الروسي في بورصة موسكو.
2. اختيار العملات الوطنية لضمان التعامل مع الدول التي تتعرض لعقوبات قاسية من الولايات المتحدة.
3. الترويج لمشاريع العملة الرقمية مع الدول العربية بمساعدة تقنية من روسيا (على غرار الاتفاقية الروسية الإيرانية لعام 2018).
4. تشجيع المشاركة العربية في المشاريع المالية والاقتصادية والاستثمارية متعددة الأطراف في دول البريكس والاتحاد الاقتصادي الأوراسي ومنظمة شنغهاي للتعاون.
5. ربط الشركات والمصارف العربية بالمشاريع الوطنية في روسيا، على سبيل المثال، نظام الرسائل المالية لبنك روسيا الذي يعمل منذ عام 2014 كبديل لسويفت. لديه حالياً 469 شركة وبنك من روسيا و12 دولة أجنبية تشارك فيه.
إن تحقيق الاستقلالية الاقتصادية والسياسية من بين التحديات الرئيسية التي تواجه الدول في العالم اليوم. ومن بين الخطوات الجوهرية التي تمكن الدول من تحقيق هذه الاستقلالية هي التخلي عن الاعتماد الكبير على الدولار الأمريكي في التجارة الخارجية. تتبع روسيا والدول العربية تقارباً في الرؤى الاقتصادية والسياسية، ويمكن أن يكون التحول من الدولار الأمريكي إلى العملات المحلية وسيلة لتحقيق المصلحة الثنائية وتجاوز الهيمنة الأمريكية. الأمر الذي يعود بفوائد متعددة، ربما يكون أهمها أن التخلي عن الدولار الأمريكي يمكّن للدول العربية وروسيا من تحسين اقتصاداتهما المحلية ودعم العملات المحلية، الأمر الذي سيزيد من الطلب عليها ويدعم السيولة المحلية. وعندما يتم التعامل بالعملات المحلية، يمكن للدول أن تحسن شروط التجارة الثنائية وتقلل التكاليف المرتبطة بتحويل الأموال بين العملات المختلفة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1134