الصين عند مفترق طرق؟
تفاقمت مشاكل الديون التي تعاني منها سوق العقارات الصيني هذا الأسبوع بعد تخلّف شركة تطوير عقارية أخرى عن سداد قيمة سنداتها العقارية، وقيام أكثر شركات العقارات مديونية في العالم: «إيفرغراند Evergrande» بتمديد تعليق أسهمها دون تفسير. شركة «فانتازيا هولدينغس Fantasia Holdings»، وهي مطوّر عقاري متوسط الحجم، وهي التي قامت قبل أسابيع بطمأنة مستثمريها بأنّها لا تعاني من «مشكلة سيولة»، قالت في تسجيلات البورصة يوم الاثنين 4 تشرين الأول بأنّها «لم تسدد قيمة سنداتها» البالغة 206 مليون دولار المستحقة في ذلك اليوم، ما أدّى إلى تعثّر رسمي. يضيف التخلف عن السداد إلى المخاوف من أنّ أزمة إيفرغراند ستنتشر لتشمل المزيد من شركات التطوير العقاري التي تمثّل جزءاً كبيراً من أسواق السندات الآسيوية ذات العائد المرتفع.
ترجمة: قاسيون
فوتت إيفرغراند دفع الفائدة على سند خارجي في 23 أيلول، ما عنى بدء فترة سماح مدتها 30 يوم قبل إعلان التخلف عن السداد رسمياً، ولم يُقدم أيّ إعلان بشأن المسألة حتى الآن. لكن حتّى قبل أن ترسل أزمة ديون مجموعة إيفرغراند الصينية شركات العقارات في الصين إلى حافة الانهيار، كانت شركات العقارات الصينية تكافح لكسب ما يكفي لتسديد مدفوعات الفائدة على ديونها. في نهاية حزيران، تراجعت نسبة تغطية الفائدة الإجمالية لـ 21 شركة تطوير عقاري صينية إلى 0.94، وهي الحصيلة الأسوأ منذ عقد.
بكلمات أخرى: يتألف الآن قطاع ملكية العقارات الخاصة في الصين من شركات «أموات أحياء- زومبي»، تماماً مثلها في ذلك مثل 15-20% من الشركات في الاقتصادات الرأسمالية الكبرى. السؤال الآن هو ما إذا كانت سلطات الدولة الصينية ستسمح بإفلاس هذه الشركات. شركة «Huarong» لإدارة الأصول، وهي أكبر شركة إدارة ديون سيئة صينية، تمّ تعليق أسهمها لأشهر قبل أن تتأخر الشركة عن إصدار تقريرها المالي وتعلن عن سجل خساراتها في النهاية في شهر آب. أثارت التأخيرات جدلاً حول المدى الذي ستخطو فيه بكين لمساعدة الشركات المأزومة.
يواجه قطاع العقارات ضغوطاً من بكين لتقليص نفوذه بعد عقود من التوسع المدفوع بالديون، والذي ساعد البلاد على النمو الاقتصادي السريع. وضعت السلطات الحكومية المالية ثلاثة «خطوط حمراء» يمنع على شركات العقارات والتمويل تخطيها. في 2020 قام بنك الشعب الصيني ووزارة الإسكان بالإعلان عن مسودة قوانين جديدة لشركات العقارات. الشركات الراغبة بالحصول على إعادة تمويل يتم تقييم طلبها بناء على ثلاث عتبات: 1) سقف بنسبة 70% على الخصومات من الأصول، مع استثناء العائدات المقدمة من المشاريع المباعة بموجب عقد. 2) سقف بنسبة 100% لصافي الدين نسبة للمملوك. 3) نسبة اقتراض نقدي قصير الأمد لا تقلّ عن واحد. سيتمّ تصنيف المطورين بالاعتماد على عدد الحدود التي يخرقونها، وسيتم وضع حدّ لنمو ديونهم على هذا الأساس. الكثير من الشركات العقارية الكبرى في هذه الحال اليوم.
تواجه الحكومة الصينية اليوم معضلة. إذا سمحت بإفلاس إيفرغراند والشركات العقارية الأخرى، فقد لا يتمّ بناء ملايين المنازل للناس، وقد يكون للخسائر التي سيتكبدها المقرضون والمستثمرون في هذه الشركات تأثير متتالٍ على الاقتصاد. من ناحية أخرى، إذا ما أنقذت السلطات هذه الشركات، فستستمر المضاربة بحيث يفترض القطاع العقاري بأنّ لديه دعماً حكومياً لجميع مشاريع المضاربة الخاصة بهم، وبأنّهم «أكبر من أن يسقطوا» – إنّها المعضلة ذاتها التي واجهتها الحكومة الأمريكية في 2008 عندما كانت البنوك والمستثمرون العقاريون على وشك السقوط.
على الأرجح، ستفعل الحكومة شيئاً ما بين الخيارين. ستضمن أن المنازل التي وعدت بها أمثال إيفرغراند 1,8 مليون صيني، أن يتم بناؤها عبر الاستيلاء على المشاريع، حيث بدأت السلطات المحلية بالفعل بالاستيلاء على المشاريع المحلية من إيفرغراند. في الوقت ذاته، ستسمح الحكومة المركزية والحزب الشيوعي لإيفرغراند بالتخلّف عن السداد للمستثمرين وحاملي السندات «إلى حدّ ما»، وإذا امتدت الخسائر إلى القطاع المالي، فلدى الحكومة المركزية الكثير من الفائض المالي الذي يسمح لها بامتصاص الضربة، كما فعلت في الماضي. مثال: يجب مقارنة ديون إيفرغراند البالغة 300 مليار دولار بإجمالي الائتمان المستحق في الصين البالغ 50 ترليون دولار، أيّ أنّه ليس كبيراً جداً. علاوة على ذلك، إن وصلت الفاتورة النهائية على الدولة وبنوكها، فيمكن للاحتياطيات هناك استيعابها بسهولة.
المشكلة الحقيقية
المشكلة الحقيقية، أنّه في السنوات العشر الماضية «وحتّى قبل ذلك» سمحت القيادة الصينية بتوسّع هائل للاستثمار غير المنتج والمضارب من قبل القطاع الرأسمالي في الاقتصاد. في سعيها لبناء ما يكفي من المنازل والبنية التحتية لسكان المدن الذين ترتفع أعدادهم بشكلٍ حاد، تركت الحكومات المركزية والمحلية المهمة للمطورين من القطاع الخاص. فعوضاً عن بناء المنازل لتأجيرها، اختاروا حلول مطوري عقارات «السوق المفتوحة» الذين يبنون ليبيعوا. لم يكن تطوّر أمثال إيفرغراند في الصين بمثابة أن الرأسمالية تقوم بفعلها. إنّها الرأسمالية التي تمّ تسهيلها من قبل المسؤولين الحكوميين لمصالحهم الخاصة. أرادت بكين منازل، وأراد المسؤولون المحليون الريع. وساعدت مشاريع الإسكان على تحقيق الأمرين. وكانت النتيجة قفزة هائلة في أسعار العقارات في المدن الكبرى، وتوسيعاً هائلاً للديون. وكما نعلم، يشكّل القطاع العقاري اليوم 20% من الناتج الإجمالي المحلي الصيني.
أدّى هذا النمو في العقارات والأنشطة غير المنتجة الأخرى في التمويل ووسائل الإعلام الاستهلاكية إلى دفع معدل النمو السنوي الرسمي في الصين. نظراً لأنّ القطاع الإنتاجي للتصنيع والتجميع والاتصالات عالية التقنية ...الخ تنمو ببطء أكبر. كانت السلطات تخدع نفسها بالادعاء بأنّها حققت هدفها في نمو الناتج المحلي الإجمالي بنسب 6-8% سنوياً، لكن هذا كان عائداً بشكل كبير إلى سوق العقارات. بالتأكيد كان يجب بناء المنازل، ولكن وكما صاغ الرئيس تشي جينغ بينغ الأمر «المنازل للسكن، لا للمضاربة».
ليس هناك من مهرب من حقيقة أنّه ستكون هناك ضربة سريعة للنمو بسبب إيفرغراند والمتعثرين أمثالها. كان التعافي الصيني من الركود الوبائي متعثراً بالفعل، ويعود ذلك بشكل جزئي إلى أنّ انتشار متحور دلتا قد أدّى إلى إغلاقات صغيرة، ولكن يعود بشكل رئيسي إلى أنّ الاستثمار ونمو التجارة مقيدان بالانتعاش غير المكتمل في الاقتصادات الرأسمالية الرئيسية. لذلك، ستكون الصين محظوظة إذا وصلت إلى معدل نمو 2% في الفترة المتبقية من العام.
والأمر الأكثر إثارة للقلق، بأنّه حتّى لو كان بالإمكان تجنّب دوامة الاضطرابات في سوق العقارات، فنهاية نموذج العقارات المدعوم بالائتمان والديون «أو حتّى تلطيفه» سيعني نمواً أقل. هذه هي المشكلة. خبراء الصين الغربيون مقتنعون بأنّ الصين: إمّا ماضية لمواجهة انهيار مالي داخلي «وهو الأمر الذي يتمّ التنبؤ به سنوياً تقريباً على مدار الأعوام العشرين الماضية»، أو أنّ الاقتصاد سيسقط في مسار نمو منخفض يبلغ 2-3% سنوياً، وهي بالكاد نسبة أعلى من الموجودة في الاقتصادات الرأسمالية «الناضجة».
الفرقعة في وجه القادة الصينيين
أحد الأسباب المقدمة، هو أنّ عدد السكان العاملين آخذ بالانخفاض «في الواقع، أفادت التقارير بأنّ معدل الخصوبة في الصين الآن أقلّ من الذي في اليابان» إلى الحدّ الذي يمكن أن ينخفض فيه عدد السكان إلى النصف بحلول نهاية القرن. السبب الآخر الشائع لدى الخبراء، هو أنّ نموذج النمو الصيني القائم على الاستثمار، والمعتمد على التصدير، قد انتهى. بدلاً من الاستثمار، يجب على الصين اليوم أن تعتمد على تعزيز الاستهلاك المحلي لجماهيرها، كما هو الحال في الولايات المتحدة ومعظم دول مجموعة السبع– ما يعني تقليص حجم الدولة من خلال الخصخصة وفتح الاقتصاد أمام المزيد من «أسواق الاستهلاك». علاوة على ذلك، ربّما لم تعد الصادرات تساهم كثيراً في معدل نمو الصين بسبب العوائق التجارية والتكنولوجية التي أقامتها الولايات المتحدة وحلفاؤها لعزل وكبح الصين. تدرك الحكومة الصينية كلّ ذلك، وهذا هو السبب في أنّ قيادة تشي جينغ بينغ تتحدث عن نموذج تنمية «دوران مزدوج»، يتم فيه الجمع بين التجارة والاستثمار في الخارج، والإنتاج لصالح السوق المحلي الضخم.
كما كتبتُ قبلاً: «بلغ متوسط الاستثمار الإجمالي أكثر من 47% من الناتج المحلي الإجمالي منذ عام 2009. لكنّ نمو الناتج المحلي الحقيقي يتباطأ. لذا فعائد إنتاجية الصين من الاستثمار الجديد «أو إنتاجية مدخلات رأس المال» آخذ في الانخفاض. بالعودة إلى عام 2006، أي قبل الأزمة المالية العالمية، تطلّب الأمر 2,9 وحدة استثمار لزيادة الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بمقدار وحدة واحدة. في 2014 كان يتطلب الأمر 6,6 وحدات استثمارية. على الصين إعادة معدل إنتاجية عوامل الإنتاج الإجمالية لتتجاوز 2,5% سنوياً، من أجل الحفاظ على نمو ناتج إجمالي حقيقي عند نسبة 7%».
وفي أمكنة أخرى، هاجمتُ التفسيرات التي يسوقها الخبراء الغربيون بأنّ الصين على وشك اختبار انهيار مالي يشبه الذي ضرب الاقتصادات الرأسمالية الكبرى في 2008، أو أنّ معدلات نموها ستتقلّص إلى قرابة الصفر بسبب فشل النموذج الاقتصادي الذي تقوده الدولة.
يعتمد النمو في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي على عاملين: النمو في حجم القوى العاملة، والنمو في إنتاجية القوى العاملة الموجودة. إن تباطأ العامل الأول أو سقط، يمكن للنمو السريع بما يكفي للإنتاجية أن يعوّض عنه بل وقد يتخطاه. يعتمد نمو الإنتاجية بشكل رئيسي على المزيد من استثمار رأس المال في التكنولوجيا، فكلما كانت التكنولوجيا أكثر تقدماً قلصت وقت العمل، وحسنت القوى العاملة الماهرة التي يمكنها منح أكثر في وقت أقل. المشكلة بالنسبة للصين من هنا، هو أنّه تمّ السماح لقطاعها الرأسمالي بالتوسع «بشكل غير منظم تبعاً لتشي جينغ بينغ» إلى الحدّ، حيث بدأت تناقضات الإنتاج الرأسمالي بالإضرار بالنهوض السابق المذهل للصين.
في الواقع دعوة تشي إلى «الرخاء العام» هي اعتراف بأنّ القطاع الرأسمالي الذي رعاه قادة صينيون «والذي حصلوا منه على مكاسب شخصية كبيرة» خرج عن السيطرة لدرجة أنّه يهدد استقرار سيطرة الحزب الشيوعي. لنأخذ تعليق الملياردير جاك ما، قبل «إعادة تربيته» من قبل السلطات: «الاستهلاك الصيني لا تقوده الحكومة بل رواد الأعمال، والسوق... في العشرين عاماً الماضية، كانت الحكومة قوية جداً. اليوم يصبحون أضعف. إنّها فرصتنا، إنّه وقتنا للعرض، لنرى كيف أنّ اقتصاد السوق، وريادة الأعمال، يمكن أن يطوّرا الاستهلاك الحقيقي».
ظلت ربحية القطاع الرأسمالي تنخفض لبعض الوقت، تماماً كما حدث مع الاقتصادات الرأسمالية الكبرى. لذلك سعى الرأسماليون الصينيون إلى تحقيق أرباح أعلى في القطاعات غير المنتجة، مثل: العقارات وتمويل الاستهلاك ووسائل الإعلام– هنا يمكننا إيجاد المليارديرات. هذه القطاعات الرأسمالية تفرقع اليوم في وجه القادة الصينيين.
استثمارات الشركات المملوكة للدولة
لطالما كانت استثمارات الدولة أكثر ثباتاً من الاستثمارات الخاصة في الصين. نجت الصين، وازدهرت، أثناء الأزمة المالية العالمية ليس بسبب الإنفاق الحكومي التعزيزي للاقتصاد الخاص على الطريقة الكينزية، كما يحبّ بعض الاقتصاديين في الغرب والصين أن يجادلوا، بل بسبب الاستثمار المباشر للدولة. لعب هذا دوراً مهماً في الحفاظ على الطلب الكلي، ومنع حالات الركود، وتقليل زعزعة الاستقرار لجميع المستثمرين. عندما يتباطأ الاستثمار في القطاع الرأسمالي كما يحدث مع تباطؤ نمو الأرباح أو انخفاضه، يتدخل قطاع الدولة في الصين. نما الاستثمار في الشركات المملوكة للدولة بسرعة خاصة خلال الفترة ما بين 2008-2009، و2015-2016 في الوقت الذي تباطأت فيه الاستثمارات غير المملوكة للدولة.
كما أوضح ديفيد كوتز في ورقة بحثية حديثة: «تتجاهل معظم الدراسات الحالية دور الشركات المملوكة للدولة في استقرار النمو الاقتصادي وتعزيز التقدم التقني. نجادل بأنّ الشركات المملوكة للدولة تلعب دوراً مؤيداً للنمو بعدة طرق. الشركات المملوكة للدولة تعمل على استقرار النمو في فترات الانكماش الاقتصادي من خلال القيام باستثمارات ضخمة. تشجّع الشركات المملوكة للدولة الابتكارات التقنية الكبرى عبر الاستثمار في المجالات الأكثر خطراً من التقدم التقني. كما أنّ الشركات المملوكة للدولة تتبنى نهجاً سريعاً لمعاملة العمال، مما سيكون مناسباً للانتقال نحو نموذج اقتصادي أكثر استدامة. يشير تحليلنا التجريبي إلى أنّ الشركات المملوكة للدولة في الصين قد عززت النمو على المدى الطويل، وعوضت الآثار السلبية للانكماش الاقتصادي.
ولهذا فما نحتاجه ليس مزيداً من التوسع في قطاعات الاستهلاك عبر فتحها أمام «الأسواق المفتوحة»، بل التوسع في الاستثمار الذي تقوده الدولة في التكنولوجيا لتعزيز نمو الإنتاجية. يمكن توجيه استثمار القطاع الحكومي هذا نحو الأهداف البيئية وبعيداً عن التوسع غير المنضبط في صناعات الوقود الأحفوري التي ينبعث منها الكربون. كما قال ريتشارد سميث: «لا يحتاج الصينيون إلى معايير أعلى للحياة تقوم على الاستهلاك اللا متناهي. يحتاجون إلى نمط حياة أفضل: هواء وماء وتربة نظيفة غير ملوثة، وغذاء صحي ومغذٍّ، ورعاية صحية شاملة، ومساكن ذات نوعية جيدة وآمنة، ونظام نقل عام يرتكز حول الدراجات الهوائية والنقل الجماعي بدلاً من السيارات والطرق الدائرية». ارتفاع الاستهلاك الشخصي ونمو الأجور سيتبع مثل هكذا استثمارات، كما هو الحال دائماً.
لكن هذا يعني أنّ الوقت قد حان كي تعود الحكومة الصينية إلى الاستثمار الحكومي وتخطيط الإسكان والتكنولوجيا والخدمات العامة، وإشراك العمالة الصينية عالية التعليم صناعياً والحضريين في هذا التخطيط. لسوء الحظ، فليس القادة الصينيون مستعدين للتحوّل بهذا الشكل الجذري، وهو ما سيضعهم أمام خطر التباطؤ الاقتصادي.
المصدر: ? China at a turning point
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1039