الصين.. إخفاء «جاك ما» أم إظهار «ضبط» مطلوب؟!

الصين.. إخفاء «جاك ما» أم إظهار «ضبط» مطلوب؟!

يضج الإعلام الغربي باختفاء «جاك ما» أكبر أثرياء الصين وعدم ظهوره للإعلام وهو كثير الظهور عادة، وأحد أهم «رواد الأعمال الملهمين»، وخلف هذه الضجة فإن الصين صامتة ولا تكثر التصريحات، ولكن الإجراءات القانونية تدل على أن عملية ضبط واسعة تجري لشركات التكنولوجيا الكبرى الصينية ذات الأبعاد المتعددة والوزن الكبير، الذي لا يمكن أن يكون إلا مضبوطاً تحديداً فيما تُقدم عليه الصين عالمياً.

أوقفت الحكومة الصينية في شهر 11-2020 إصداراً عاماً لأسهم شركة ANT الصينية التي تعود إلى «جاك ما» الثري الصيني، ومالك مجموعة علي بابا للتجارة الإلكترونية، والعاملة في مختلف مجالات التكنولوجيا والتكنولوجيا المالية. توقّف الإصدار الذي كان من المتوقع أن يوصل قيمة الشركة إلى ما فوق 300 مليار دولار، ويزيد ثروة مالكها البالغة 61 مليار دولار. وكان لهذا آثاراً مالية امتدت من شانغهاي إلى سوق نيويورك، أهمها: خسارة علي بابا لـ 17% من قيمتها السوقية، وقيمة تقارب 140 مليار دولار.

ليست المرّة الأولى التي تتعرض فيها كل من علي بابا وANT لانتقاد ورقابة الجهات الحكومية الصينية، وليستا وحدهما في هذا الأمر. وما حدث كان ضمن سلسلة إجراءات وصلت اليوم إلى عملية تدقيق وإعادة هيكلة في أكبر شركات الإنترنت الخاصة في الصين.

مواجهة الاحتكار وضبط التوسع غير المنظم لرأس المال

منذ شهر أيلول 2020 أعلنت الحكومة الصينية عن إطلاق حملة تنظيم واسعة لقطاع التكنولوجيا ولمواجهة الاحتكارات فيه، وهي الحملة التي انتقدها جاك ما في آخر ظهور له في شهر تشرين الأول عندما حمل على نظام البنوك الصيني والجهات المنظمة و«الرجال العجزة» في مجتمع البنوك العالمي، وهو المعروف دائماً بانتقاده لقوانين ضبط سوق المال في الصين.

وفي شهر 11 وعقب إيقاف الإصدار، أطلقت الحكومة قائمة القواعد الجديدة في 22 صفحة لمواجهة الاحتكار في السوق الصينية. كما خصّت التكتلات الكبيرة العاملة في قطاع المال والإقراض والتأمين عبر الإنترنت بقائمة قواعد جديدة، واتضح بأن الإجراءات تشمل الجميع، وهي اتجاه عام في الصين، حيث تم الإعلان عن الحاجة إلى رؤية لمكافحة الاحتكار، ومنع «التوسع غير المنظم في رأس المال».

ومنذ مطلع شهر 12- 2020 وضعت الإمبراطورية المالية لجاك ما تحت التدقيق والتحقيق، ونصحته الحكومة بناء على ذلك بالبقاء في الصين وعدم مغادرتها وفق ما نقلته وكالة أنباء بلومبرغ الأمريكية. واليوم يتعامل مدراء شركة علي بابا مع تشريعات مكافحة الاحتكار التي تستهدف «التكتيكات القاتلة للمنافسين في التجارة الإلكترونية». وتم تشكيل فريق عمل مشترك للإشراف على ant بقيادة لجنة الاستقرار المالي والتنمية وإدارات البنك المركزي، ومهمتها جمع البيانات ودراسة إعادة الهيكلة وصياغة قواعد أخرى للصناعة، وسينتج عنها وفق محللين: أن تتخلى ant عن أحد مجالات أعمالها في الخدمات المالية.

علي بابا تعرضت لانتقاد حكومي واسع في عام 2015 وفي تقرير وزارة الصناعة والتجارة الصينية اتهم المجموعة سابقاً باستضافة تجار مشبوهين، وإتاحة تداول بضائع مقلّدة، وأخذ رشاوى وإعلانات مزيفة، ليعلن في حينها أن الشركة تعاني من أزمة مصداقية. أما ant فقد خضعت لإعادة هيكلة سابقاً عندما أسست Yu’e Bao التي تعتبر أكبر صندوق تمويل عالمي، بأكثر من 588 مليون مستخدم، أي: ثلث الصين تودع أموالاً فيها، والتي مع بدئها في 2013 نمت بتسارع كبير، ولكن في عام 2016 تمّ تحجيم أعمالها في خلق المال للإقراض والإبقاء على دورها كوسيط بين منظومة البنوك النظامية، وبين مالكي الحسابات في الشركة. ليشير حاكم بنك الشعب الصيني في حينها بأن أعمال ant كمقرض في الظل، تقوّض قوانين إدارة المال الممكنة عبر البنوك، وهي تخرج الودائع منها، وتصبح بعيدة عن أعين الرقابة، فتم تقييدها، ولكن بقيت تجني أرباحاً هائلة من دور الوسيط المالي.

التدقيق الذي يجري اليوم، وإيقاف الإصدار المالي وتوسيع قيمة شركات جاك ما، وما يقارب التوبيخ العلني لأثرى رجل صيني... ليست مسألة تتعلق بهذه الشركة فحسب، بل إن جاك ما ذائع الصيت وشركاته ليس الوحيد، فالحملة تستهدف أيضاً إدارة شركة Tencent وهي أكبر شركة تكنولوجية خاصة في آسيا من حيث القيمة السوقية، والتي تملك تطبيق وي تشات الصيني الشهير، ويعتقد البعض أن الحملة ستمتد لتشمل أيضاً شركة ByteDance التي تملك تطبيق تيك توك، ومجمل الشركات الخاصة التي تعمل في مجال التطبيقات الإلكترونية. تلك الشركات التي تحت أيديها مئات ملايين الحسابات الإلكترونية، وتستطيع أن تؤثر على كل تفصيلة في الحياة اليومية الصينية، التي أصبحت مؤتمتة إلى حد بعيد، وهي بدورها تعمل في السوق العالمية بشكل واسع وتتعرض لضغوطات غربية. 

بعيداً عن «التشويق» ضبط البيانات الكبرى

بعيداً عن «أجواء التشويق» التي يبثها الإعلام الغربي حول الإجراءات الصينية، فإن الصين تُقبل على إجراءات كبرى في مجال المال، وتحديداً مع ريادتها في مشروع العملة الإلكترونية الرسمية. حيث يصبح النقد والتداول وجميع جوانب الجياة اليومية مرهونة بالتكنولوجيا العالية وبيانات المستخدمين، وكلتاهما موجودتان إلى حد بعيد لدى شركات خاصة مملوكة لأشخاص. ولا يمكن أن تجري الصين نقلة كهذه إلّا بزيادة ضبط الشركات العاملة في مجال البيانات الكبرى.

عموماً، لقد فتحت الصين لقطاع الأعمال في مجال التكنولوجيا العالية وخدماتها ليستفيد من سوق هائلة ومزدهرة، وبالشكل الذي ساهم إلى حد بعيد بتطوير البنية التحتية لقطاع تكنولوجيا الاتصالات والخدمات الإلكترونية، حتى أصبحت شركات هذا المجال تشمل أغنى أغنياء العالم، ومن بينهم جاك ما. ولكن ما يحكم تطوير البنى التحتية والقاعدة التكنولوجية يجب ألّا يعيقه الربح والاحتكار إذا ما أراد السير قدماً، وتحديداً عندما تستطيع هذه الشركات الخاصة بملكيتها للبيانات الكبرى أن تلجأ إلى الأعمال المالية الوسيطة، وتجمع الثروات من حركة المال في أكبر اقتصادات العالم، وحيث ينشط أكثر من 1,4 مليار نسمة. وربما الأهم كل ما يحمله هذا من تحديات ضمنها الأوزان السياسية لهذه الشركات، ومقدرتها على لعب دور في المعركة التي يتحول فيها قطاع التكنولوجيا إلى أهم سلاح، وتصبح الحروب السيبرانية واحدة من أوسع أنواع الحروب. التطور يحتاج إلى مزيد من الإدارة والتنظيم، لكي يبقى النموذج الصيني قابلاً للتحرك للأمام خارج منطق رواد الأعمال الملهمين، وضمن منطق الضرورات العامة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1000