المصنع والدولار
عامر محسن عامر محسن

المصنع والدولار

(تخوض الصين، تحت إشراف الحزب الشيوعي، تجربة اجتماعية وسياسية عملاقة وفريدة، ينخرط فيها سدس البشرية؛ هو مشروعٌ تاريخي يتقزّم أمامه مشروع الرأسمالية الديمقراطية في شمال الأطلسي) آدم توز، «لندن ريفيو أوف بوكس«
«استعمل الماضي لتخدم الحاضر، واستخدم الأجنبي لتخدم الصين«
ماو تسي تونغ

في مقالٍ في «لندن ريفيو أوف بوكس»، يستعرض آدم توز مختلف وجهات النظر حول صعود الصين والمواجهة الأمريكية معها، وبينها رأيٌ مثير لباحثين هما: ماثيو كلاين ومايكل بيتيس. يشرح بيتيس وكلاين، أنّ نظام الدولار الأميركي استند، منذ عام 1989، على دينامية التصنيع والتصدير بين أمريكا وأوروبا من جهة، والصين وألمانيا من جهة ثانية. أخذ البلدان الدور الذي كانت تلعبه اليابان وشرق آسيا في السبعينات، وأوروبا الغربية قبلها، كـ«المصنع» الذي ينتج للتصدير مقابل الدولارات الأمريكية. هذه العملية، كان عمادها الدولار والعمالة الرخيصة: استندت ألمانيا على انفتاحها على عمالة شرق أوروبا، وألمانيا الشرقية لتعزيز قطاعها التصديري، يقول الكاتبان: فيما اعتمدت الصين استراتيجية لاستثمار رخص اليد العاملة فيها لتشجيع الصادرات. هذا استلزم، بحسب الكاتبين، كبح استهلاك العمّال (وحقوقهم) مقابل تشجيع الاستثمار في مرحلة الصعود هذه.
بتعابير أخرى، قرّرت القيادة الصينية منذ بداية التسعينات، أنّ البلد في حاجة إلى استثمارٍ وتكنولوجيا، وأنّ ذلك لن يتوفّر إلّا عبر الاندماج في المنظومة العالمية عبر قطاع تصديرٍ متفوّق يجلب شركات أجنبية، وينتج فوائضَ من الدولارات (يجب أن نتذكّر أنّ المراحل الأولى من الانفتاح في الصين، خلال الثمانينات، لم تكن كلّها سهلة وناجحة، وواجه البلد أكثر من أزمةٍ في الميزان التجاري والمالية العامة في تلك السنوات). ولكنّ هذا التفسير، عندي، هو نصف القصة لا أكثر...

المسألة ليست في (العمالة الرخيصة) فقط!

حتّى نفهم التجربة الصينية و«النموذج» الذي خرجت منه، يجب أن نبدأ بمفارقة المفهوم الشائع عن «التراكم البدائي»، حيث انخفاض أجر العمالة يتحوّل، بشكلٍ ميكانيكي، إلى صناعات وتصدير.
لو كانت هذه هي المعادلة، لانتقلت كلّ صناعات العالم إلى إفريقيا منذ سنوات طويلة. ولكنّ الطبقة العاملة في العصر الحديث ليست «مادّة خام» موجودة بشكلها الطبيعي، تبني قربها مصنعاً، وتبدأ بالتصدير. «اليد العاملة» هي أيضاً تحتاج إلى تصنيع. حتّى نقرّب الموضوع: هل يمكن مثلاً أن تقوم شركات عالمية بالاعتماد على عمّالٍ لم يحصل أحدٌ فيهم على شهادة مدرسية، وأن يشغّلوا معاملها وإنتاجها؟ دون أن يكونوا محاطين بنظام رعاية صحية وتقاعد، ومساكن ووسائل نقل؟ هل كان من الممكن أن تقام القاعدة الصناعية التي خرجت في الصين، منذ التسعينات، في دولةٍ ليست فيها لوجستيات حديثة، وإمكانية لنقل السلع من المعمل إلى المرفأ؟ أو قطاع صناعي متقدّم وكثيف وآلاف المورّدين المحليين يخدمون حاجاتك، فلا تضطرّ إلى استيراد كلّ قطعةٍ تحتاج إليها؟ هذا من دون الكلام عن مستوى سيادة القانون وحقوق الملكية والاستقرار السياسي.
يخطئ من يظنّ أنه بالإمكان «نقل» المصنع الصيني الهائل وتوزيعه على بلادٍ، مثل: فيتنام أو تايلاند، أو هم لا يفهمون حجم الإنتاج الصيني، والاستثمار والشروط التي تحتاج إليها لأجل استبداله. لهذا السبب أيضاً، حين انفتحت الصين على الخارج، فهي لم تتمكّن من «جذب» الرساميل الأجنبية فحسب، بل هي أجبرتها على الدخول في شراكاتٍ مع الشركات المحلية ونقل التكنولوجيا إليها، وذلك لأنّ ما كانت تقدّمه الصين لعملية الإنتاج الدولية لم يكن هناك من شبيهٍ له.

الإدارة المركزية المنظّمة للصين

الفكرة هنا ليست، فقط، في أنّ الحزب الشيوعي الصيني قد عرف كيف يستخدم القاعدة الصناعية والبشرية التي بنتها الثورة منذ عام 1949 لخلق محرّك إنتاجٍ وتصدير عالمي في التسعينات، بل هي في أنّ إدارة هذه العمليّة الهائلة، واستيعاب النمو السريع وحاجياته- ثمّ استخدام عائدات التصدير داخلياً لنقل البلد إلى حالة نوعيّة جديدة- هي عمليّة لا يقدر أي نظامٍ عليها. بتعابير أخرى، نظّمت الحكومة الصينية، وبشكلٍ مركزيٍّ ومن فوق، تجربة تاريخية لخلق القيمة ومن ثمّ استثمارها في الداخل. وهنا، يكمن الفارق الأساسي بين «النموذج» الأمريكي ونظيره الصيني، وليس في المنظومة الانتخابية أو درجة «حرية السوق». يستحضر الكثيرون، في هذا المجال، نجاح الصين في بناء أو توسيع عشرات المدن، وإسكان مئات الملايين من النازحين من الريف، ولكن سنعطي مثالاً مختلفاً عن الظاهرة نفسها: حين بدأت الصين ببناء خطوط القطارات السريعة (وهي كانت حكراً على عدد قليل من الدول المتقدّمة)، ثم توسّعت في بنائها بشكلٍ محموم في السنوات العشر الماضية، آلاف الكيلومترات من الخطوط الجديدة سنوياً، كان من الصعب استيعاب حجم ومعنى هذا البناء السريع، ولكنّك، حين تنظر إلى مطارات الصين اليوم، تفهم أنّ الأمر كان وليد تخطيطٍ واضطرار، فالصين بلدٌ كثيف للغاية، وفيه عشرات المدن الضخمة في مساحة صغيرة نسبياً. حين يبدأ هذا البلد بالنمو والسكان بالسفر أكثر، من المستحيل أن تقوم المطارات الداخلية باستيعاب هذه الأعداد من المسافرين... أي أنّ مثل هذه الشبكة، لو لم يتم التخطيط لها مسبقاً وتنفيذها كـ«مشروع استراتيجي»، لكانت البنية التحتية اليوم تضع حدوداً على النموّ، أو تجعل السفر داخل الصين غالياً وصعباً. إن كان الإنجاز الأهم لـ«المرحلة الماوية» هو في تحديث الصين، وتأسيس «قاعدة» مستقرّة للريف والعمّال في البلد، فإنّ إنجاز مرحلة ما بعد 1978 يتلخّص في رعاية واستيعاب النمو التاريخي، الذي شهدته الصين عبر اندماجها في الاقتصاد العالمي واستثماره داخلياً.

الإيديولوجيا والتراث

في ندوةٍ أكاديمية حول الصين، قام الأستاذ الأمريكي- عرضاً- باستخدام السردية الغربية الرائجة عن أنّ الصين قد «صحّحت» مسارها عام 1978، وهي بذلك نالت الازدهار. فقاطعه فوراً الباحث الصيني، من دون دبلوماسية، ليشرح له بأنّ معدّل سن الصيني كان 42 سنة عام 1949، وأنّه لا يمكن رؤية ما يجري في الصين اليوم على أنّه حالة «قطع» مع ثورة 1949.
للحقّ، فإنّ الكثير من النقاشات النظرية التي تلخّص تاريخ الصين السياسي على أنه مواجهة إيديولوجية بين معسكرين متقابلين (اشتراكي/ معاد للاشتراكية) تتجاهل أنّ أكثر الكوادر والقادة الصينيين لم يكونوا «مؤدلجين» بالطريقة التي نفهمها. أي أنّ غالبيتهم لم تكن لا ماويّة متشدّدة، تؤمن بضرورة تطبيق نموذجٍ نظري ماركسي فوق كل شيء، ولا ليبرالية «شرسة» تؤمن بشكل أعمى بسيادة السوق. شرحنا في مقالٍ سابق عن التيار الوسطي (يسميه بعض الباحثين «شعبوي») والذي كان هو غالباً من يحسم الأمور داخل النظام، ويمثّل التيار الأوسع الذي لا يعتنق الماركسية اللينينية على طريقة الناشطين الأوروبيين في أوائل القرن العشرين، بل يراها أساساً كـ«حلّ» لمشاكل الصين وتحدّياتها في السياق الذي وجدت نفسها فيه.
حين تقرأ كتابات ليو شاوتشي، مثلاً، فهي تركّز على صورة للحزب الشيوعي كأنّه «عقل الأمّة»، النخبة التي تفكّر وتخطّط للمصلحة العامة، شكلٌ محدّث عن الدولة الإمبراطورية التنموية، ولذلك تجد في كتاباته الكثير من الوصايا عن ضرورة خلق «الحزبي المثالي». الكادر المدرّب، النزيه، الذي يفكّر في خير الجماعة، ويؤمن بضرورة الإصلاح المستمر وتقبُّل الأفكار الجديدة. كأنّه يعدّد صفات العنصر الصالح للمشاركة في هذه النخبة الحاكمة. وستجد أنّ إصلاحات تشي جينبينغ تستوحي من هذه الأفكار على الأقل، بقدر ما تستوحي من الكتاب الأحمر (كمثال قيامه بـ«تطهير» ما يقارب 1,4 مليون حزبي في حملةٍ كبرى ضد الفساد).
للحق، فإنّ هناك موجةً بين المؤرّخين الصينيين تقوم على إعادة النظر في التقسيمات القديمة والبحث عن الاستمرارية بين النظام القديم ونظام الحزب الشيوعي.
علينا أن نتذكّر أنّ الكثير من منهجيات الحزب الشيوعي لا تتعارض مع التراث الصيني. يشرح نولان أنّه، في الكونفوشيوسية، تعتبر الخدمة العامّة وتحقيق مصلحة الجماعة من أرقى حالات الوجود، وهي واجبٌ أخلاقي لمن يصل إلى رتبة القيادة. أو الربط الذي أقامه فلاسفة حداثيون، مثل: فينغ يولان (في أوائل القرن العشرين) بين الاشتراكية والفلسفة الشرقية: «حين كان التاو العظيم متحقّقاً في الواقع، كان العالم مشاعاً للجميع».

خاتمة

ما يجري اليوم، هو أنّ منظومة التسعينات، حيث العالم يشكّل بأسره «وحدة إنتاج» مترابطة، والدولار هو العملة الرسمية فيه، والصين مصنع العالم، إلخ... توشك على الانتهاء. قد تحصل مواجهة وتحاول أمريكا عزل الصين، وقد ينقسم العالم إلى أكثر من كتلة اقتصادية، وقد تنهار التجارة الدولية. وإن كان السلاح- والامتياز- الأمريكي الأهمّ والأمضى في هذه المعركة، الدولار، هو نتاج تاريخٍ من الهيمنة والقدرة العسكرية، فإنّ سلاح الصين هو نموذجها الفريد، الذي لا نقدر على الإحاطة به بتبسيطٍ وسهولة (وقد أثبتت غالبية التنظيرات والتوصيفات الغربية له عن قصورها).

*المقال للكاتب اللبناني منشور كاملاً في جريدة الأخبار اللبنانية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
983
آخر تعديل على الإثنين, 14 أيلول/سبتمبر 2020 12:21