السياسات الاقتصادية السورية... (التصالح مع الجوع)!
هل يمكن الحديث في سورية اليوم عن (سياسات اقتصادية)؟! هل يمكن إعطاءها صفة وتعريف؟! بالطبع يمكن نظرياً، لأن السياسات باعتبارها نهجاً يعكس آليات عمل المنظومة الاقتصادية- السياسية هي ظاهرة قابلة للتحديد، ويمكن الوصول إلى توصيف يختزل هذه المنظومة... ولكن عملياً، يصعب التعبير بوضوح عن النتائج في (الأجواء الديمقراطية السورية).
يمكن أن نستعمل أسلوباً آخر لنجيب عن سؤال: كيف تكون السياسات الاقتصادية وطنية؟
يمكن إعطاء صفة (الوطنية) على السياسات الاقتصادية عندما تحمي الوطن، وتدفعه قدماً للأمام... وفي الحالة السورية فإن السياسات كي تكون وطنية عليها على الأقل أن توقف تدهور البلاد، وتضع مساراً لوحدة السوريين، ولم شملهم واستعادة كرامتهم.
تتدهور البلاد عندما تُفتح احتمالات الفوضى، التي أساسها تعمّق اليأس من المستقبل، وضيق فرص العيش بكرامة وبالحدود الدنيا.
وبهذا المقياس، فإن البلاد على نار ساخنة، والسياسات لا تقوم بأية إجراءات توقف هذا التدهور، بل على العكس! ولعلّ أبرز مثال هو تحدّي الجوع... فالجوع يؤدي (للكفر بالبلاد) ويغذي اليأس والعنف.
إن الجوع هو أزمة موصّفة في سورية منذ عام 2016 على الأقل، ومنذ ذلك الحين يُصنف الوضع الغذائي السوري كأزمة غذاء دولية، واليوم وصلنا إلى أكثر من 9 ملايين جائع، بتسارع قياسي في العام الحالي والماضي، فما الذي قامت به السياسات؟!
هل قامت بأي إجراء لتخفيض أسعار الغذاء؟! لا... إذ لا يزال الغذاء مرتبطاً بالاستيراد والدولار، بل على العكس تم تقليص كميات الغذاء المدعوم، وإيجاد خطة تقشف ليتم توزيع كميات أقل للأسرة عبر البطاقة، وللأسر حصراً مع حرمان العازبين والمطلقات من هذه (الحصة السخية).
وبالمقابل، تحوّل الغذاء المستورد إلى مادة الربح الأساس، وأسعاره أعلى من الأسعار العالمية بنسب قياسية! وهذه النسب لا تنجم عن كلف العقوبات، فالسوق الإيرانية معاقبة ولكن أسعارها دولية، وليست هذه النسب عائدة لارتفاع سعر الدولار، لأن التسعيرة المحلية تفوق أعلى من أسعار دولار السوق! بل إنها تكلفة استثنائية، لا نعلم على ماذا تُدفع ولمَنْ... إجابات ينبغي أن تتيحها الجهات التي تطبّق السياسات، والتي تعطي المستوردين إجازات استيرادهم وترهنها ببيانات تكلفة، وتستطيع أن تضيّق إن رغبت على (أعتى رجال المال)... ولكنها لم تطرح حتى تساؤلاً أو استفساراً حول الكلف الجنونية لأسعار الغذاء المستورد! بل تعتمد نهج (التسامح والتصالح) مع هذا المستوى من التسعير الذي يتسبب بتقليص كميات الأساسيات التي يتغذى عليها الملايين ممن يدفعون هذه الضريبة المخفية في سعر الرز والسكر والبيض والزيت وغيرها...
السياسات تتعامل مع إنتاج الغذاء أيضاً ببرود، ولم تستطع كل التصريحات والخطط أن تصل لأفعال ونتائج: كأن يتم تأمين عودة المزارعين إلى قراهم وزراعة أراضيهم لتوسيع المساحات المزروعة، أو أن يتم استعادة غلة المحاصيل المتدهورة عبر إعادة تأهيل البذار المحسنة وتأمينها وتخفيض الأسمدة وإصلاح منظومة الري.
كما لم تتم استعادة منظومة التمويل للمزارعين عبر المصرف الزراعي (الذي يقرض اليوم الحكومة لا المزارعين)، ولم تتم استعادة إنتاج الغذاء البديل عن الاستيراد، كما في استعادة منظومة الشوندر السكري عوضاً عن استيراد السكر، أو الوصول إلى بدائل لأعلاف الدواجن المستوردة، أو حتى توزيعها مدعومة، كما في السكر والرز لإنقاذ قطاع الدواجن، أو أن يتم التخطيط لإكثار الثروة الحيوانية مجدداً ، أو حتى تخفيض رسوم عبور القطعان لتصل إلى أماكن الاستهلاك بسعر قريب من سعرها في مناطق التربية، فسعر الخروف في دمشق ضعف سعره في حماة وهذا الفارق يتم دفعه إتاوات على طريق النقل!
السياسات المطبّقة متصالحة مع (أزمة الجوع)، ولا ترى أنها تحتاج أية إجراءات غير عادية و(حامية)... وإن كانت تدرس أمراً ما بجدية، فربما هي تدرس تخفيض تكاليف دعم الخبز... والسياسات التي تتصالح مع الجوع، لا ترى مشكلة في تراجع الإنتاج وتدهور المنتجين الصناعيين، ولا ترى مشكلة في انتشار قطاعات الفوضى والإثراء الفاحش لأمراء الحرب والقطاعات السوداء. لأن جوع شعب كامل هو حد فاصل يُعرّي السياسات من كل زيف وشعارات، ويكشف حقيقة (دورها الوطني).
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 981