الغاز يربط آسيا وأوروبا... وينبئ بأزمة أمريكية
تتقدم خطوط الغاز الروسية باتجاه أوروبا ويزداد الضغط الأمريكي بالعقوبات لمحاولة إيقاف هذا التطور؛ وذلك بعد أن امتدت أنابيب الغاز من سيبيريا إلى الصين دون أن تستطيع الولايات المتحدة أن تمنع الخطوة الجديدة في طريق تمتين العلاقات بين القوتين الآسيويتين. أما في داخل الولايات المتحدة (المنتج الأكبر عالمياً) فإن إنتاج الطاقة المتضخم يصل إلى نقطة حرجة...
صدَّرت روسيا 30% من إنتاجها من الغاز وما يقارب 225 مليار متر مكعب في 2018، وتخطط وهي ثاني أكبر منتج عالمي ليكون عام 2020 عاماً مفصلياً في توسيع صادراتها من الغاز إلى أكبر مستهلكيه في الصين وأوروبا، وذلك عبر انطلاق تشغيل المشاريع الثلاثة: قوة سيبيريا، والسيل التركي، والسيل الشمالي 2.
ثلاثة مشاريع روسية في 2020
المشروع الأول (قوة سيبيريا) الذي تم إطلاقه مؤخراً، هو الأنبوب الممتد من الشرق الروسي إلى الصين بطول 3000 كم، والذي يصل إلى طاقة نقل: 38 مليار متر مكعب سنوياً، ستكون متاحة بكاملها في 2025 بعد إتمام الجزء الصيني من الأنبوب، ولكن الخط سينقل 5 مليارات متر مكعب في العام القادم، لترتفع إلى 10 مليار في 2021، ومن ثم 15 في عام 2022.
ويشكل الخط بطاقته الكاملة نسبة 13% تقريباً من الواردات الصينية من الغاز والتي قاربت 280 مليار متر مكعب في 2018، فالصين أكبر مساهم في زيادة الطلب العالمي، وتسعى إلى ضمان استقرار إمداداتها بالطاقة عموماً والغاز تحديداً، حيث إن الاستيراد بالأنابيب يعتبر أكثر استقراراً وأقل تكلفة، وعلى هذا الأساس تمت الموافقة على بحث مشروع أنبوب آخر يصل الحقول الروسية بالصين، وقد يمر عبر منغوليا.
المشروع الثاني هو السيل التركي، وسيتم إطلاق الغاز فيه بتاريخ 8-1-2020، وهو المشروع المتضمن أنبوبين يعبران البحر الأسود من روسيا إلى تركيا بطاقة إجمالية 31,5 مليار متر مكعب... سيتم حالياً الضخ بأحدهما ليغذي السوق التركية، ويفترض أن يمتد الآخر من تركيا إلى بلغاريا فصربيا، ويكون قادراً على تغذية تركيا وجنوب وشرق أوروبا، ولكن تتباطأ الأعمال في بلغاريا التي تتعرض لضغوط غربية لإيقاف العمل بالمشروع، ولم تستكمل إنشاء الجزء الذي تعهّدت به من الأنبوب... بينما قامت صربيا بإنجاز جزئها من الأنبوب.
الأنبوب الثالث هو خط السيل الشمالي 2، الذي سيصل إلى الشمال الأوروبي بطاقة 55 مليار متر مكعب سنوياً، وهي تشكل نسبة 13,7% من واردات أوروبا من الغاز التي بلغت في 2018 قرابة 400 مليار متر مكعب. ومع استكمال تدفق خط السيل الشمالي والتركي ووصول التدفقات إلى أوروبا سترتفع حصة روسيا من تأمين الغاز إلى أوروبا من نسبة 40% حالياً إلى قرابة 60%.
كان من المفترض أن تنتهي الأعمال في أواخر 2019، ولكن تأجيل الإطلاق يرتبط بتأخر التصريحات في الدنمارك للمباشرة بالأعمال، والتي أتت أخيراً في الشهر العاشر من العام الحالي. ووافقت جميع دول حوض البلطيق على مدّ الخط في مياهها الإقليمية، وهو ما دفع الولايات المتحدة إلى التصعيد بالتهديدات في اجتماع الناتو الأخير، ونقلها إلى التطبيق، حيث من المنتظر أن يقر الكونغرس عقوبات على الشركات المشاركة في المشروع قد تطال السفن والمدراء.
إن مدَّ أنابيب الغاز وتوقيع عقود إمداد طويلة الأجل، وبنسب كبيرة تغطّي نسبة هامة من احتياجات الطاقة، يعني ترسيخ علاقات اقتصادية تتطلب توافقات واستقراراً سياسياً طويل الأمد، يتناقض مع المصلحة الأمريكية، إذ تجد الولايات المتحدة صعوبة في إعاقة مدّ وتمتين المصالح الاقتصادية بين روسيا والصين، وبين روسيا وأوروبا... والأسوأ، أن خياراتها البديلة لبيع غازها المسال تضيق، وتؤثر سلباً على فائض إنتاج الطاقة في الولايات المتحدة، مشعلاً بوادر أزمة في قطاع النفط والغاز الصخري الأمريكي.
فقاعة الغاز الصخري قد تنفجر!
تقود الولايات المتحدة توسع الإنتاج العالمي من النفط والغاز الصخري منذ 10 سنوات تقريباً، وقد تضاعفت طاقة إنتاج الغاز في مناطق الشرق الأمريكي (منطقة أبلاشيان) 10 أضعاف بين عامي 2010-2017... ولكن مع ذلك فإن أسعار أسهم الشركات الكبرى في هذه المنطقة تتهاوى، وأسعار الغاز فيها وصلت إلى مستويات تحت الصفر!
يتراجع سعر الغاز في الأسواق المالية الأمريكية بنسب كبيرة، 30% بين شهري تشرين الأول من عامي 2018-2019، وفق مؤشر Henry hub price
ويؤثر هذا على أسواق الغاز العالمية أيضاً، حيث تراجع السعر الذي تدفعه أوروبا مقابل الغاز الروسي بنسبة 33% أيضاً خلال عام مضى.
ويرتبط هذا التراجع الذي تقوده الولايات المتحدة، ليس فقط في فائض الطاقة، بل بالوضع المالي للشركات المنتجة، حيث يخفض المستثمرون الماليون في wall street من قيم أسهمها. وفي دراسة لمركز IEEFA (منظمة اقتصاديات الطاقة والتحليل المالي) على سبع من الشركات الكبرى في منطقة أبلاشيان فإنها قد خسرت نسباً تتراوح بين 30% وصولاً إلى 80% من قيمة أسهمها.
ووفقاً لتحذير شركة cheasepeak energy «هنالك شكوك جدية حول قدرتنا على الاستمرار وسط التحديات الحالية» وهذه الشركة سجلت أعلى قيمة أسهم في منطقة أبلاشيان مع مطلع العام الحالي، ولكن أسهمها اليوم تتداول بأقل من 1 دولار للسهم.
أما التخفيض المالي وعزوف المستثمرين عن هذه الشركات فيرتبط بأن التوسع الاستثماري الكبير في قطاعي النفط والغاز الأمريكيين خلال عقد مضى، تمّ عبر الدَّين، وحتى الآن لم تصل هذه الشركات إلى تدفقات نقدية إيجابية، أي إنها لا تزال تسدد ديوناً أعلى من أرباحها، وهو المسار الذي يهدد بالاستمرار به فعلياً أسعار الغاز المتراجعة مع تراجع احتمالات التصدير الأمريكية، وحصتها من السوق العالمية المستقبلية. وقد عنون موقع markets insider الأمريكي بأن: فقاعة ديون حفارات النفط الصخري تصل إلى ختامها... موضحاً أن الشركات لا تمتلك سوى خيار وحيد في مواجهة هذا التراجع وهو تقليص أعمالها، ففي بنسلفانيا مثلاً وخلال شهر 10-2019 تراجعت أعمال النفط والغاز بمقدار النصف عن مستوى الشهر ذاته في 2018، ويقول محللو تقرير IEEFA أنه إذا كان قطاع النفط الصخري يتراجع بحدّة، فإن قطاع الغاز يسقط من هاوية.
تمتد خطوط الغاز عبر آسيا وبين آسيا وأوروبا لتكون أساساً مساعداً لعلاقات مستقرة وطويلة الأمد، وهو الذي يتناقض مع المصلحة الأمريكية. لقد بنت الولايات المتحدة استثماراتها في الغاز والنفط على أساس زيادة القدرة على التحكم في السوق العالمية، ولكن اليوم وبعد عشر سنوات تجد نفسها وقد تراجعت عن موقع المستهلك الأكبر عالمياً للغاز، الذي ستحتله الصين في العام القادم... كما أنها لا تستطيع رغم تحولها إلى أكبر منتج عالمي أن تفرض غازها المسال على الأسواق الكبرى الأوروبية والصينية، التي تجد في الأنابيب الروسية غازاً أقل تكلفة وأكثر استقراراً... بينما لا تستطيع الولايات المتحدة أن تمنع طويلاً وعبر العقوبات والفرض هذا الاتجاه الموضوعي، يتبقّى للولايات المتحدة التحكُّم بالتسعير الذي لا يزال يتم بعملتها وتؤثر به إلى حد بعيد أسواقها المالية، ولكن تخفيض السعر العالمي يؤثر سلباً على الجميع ولكنه يُطيح بصناعة الطاقة الأمريكية الجديدة التي يبدو أنها فقاعة جديدة قد تنفجر!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 943