(كان في خير»... ولكن: متى غادرنا ولماذا؟

(كان في خير»... ولكن: متى غادرنا ولماذا؟

كثيراً ما تسمع من كبار السن السوريين، مقولة (كان في خير» عندما يقارنون بين حياة السوري العامل في الستينيات والسبعينيات، وما بعدها. ويسهبون في شرح كيف كان رفع مستوى الحياة وبناء المستقبل متاحاً ويسيراً... الأمر الذي يعكس وقائع فعلية في مسار التنمية السورية، وليس فقط حنيناً إلى الماضي.


تقول الأدبيات الاقتصادية السورية: أن منتصف السبعينيات، هي مرحلة انعطاف سلبي في التطور الاقتصادي الاجتماعي السوري. إذ بدأ بعدها تباطؤ النمو الاقتصادي الاجتماعي، وتضاؤل قدرته على تغطية النمو السكاني، بعد أن كان متّقداً في الستينيات، والنصف الأول من السبعينيات.
الموارد إذْ تضر ولا تنفع
على الرغم من أنه بعد حرب 1973، بدأ تدفق الأموال العربية إلى سورية بموجب اتفاقيات ما بعد الحرب، وعلى إثر ارتفاع أسعار النفط في حينه. فإن هذه الأموال التي بلغت سنوياً 1,5 مليار دولار، لم تشكل رافعة اقتصادية متينة، رغم أنها أدت إلى نموٍ وسطي في السبعينيات قارب الـ 10% سنوياً، ولكنه ما لبث أن انهار تماماً إلى 1% في مطلع أزمة الثمانينيات، ومع توقف تدفق هذه الأموال، إذ تبين أن الأموال المتدفقة لم تتحول إلى مشاريع استثمارية فعّالة قادرة على الاستمرار الذاتي، وتوليد المزيد من النمو. بل أتاحت في تلك المرحلة انتقال جزء كبير من الثروة إلى نخب المال البيروقراطيين، المتحاصصين مع النخب المالية التقليدية في السوق السورية. أي: أن تدفقات الأموال هذه ساهمت بالدرجة الأولى بتوسيع شريحة الأثرياء، وزيادة ثرواتهم، وشوهت البنية الاقتصادية الاجتماعية لتثقلها بنموذج أثرياء الفساد الذي أصبح يسحب 30% تقريباً من الناتج السوري!
(منير الحمش الاقتصاد السوري في أربعين عاماَ- التقرير الوطني الاستشرافي الأول لمشروع سورية 2025).
بين نمو الناتج ونمو السكان
واحد من المحددات الهامة للتطور الاقتصادي الاجتماعي، هو قدرة النمو الاقتصادي على مواكبة نمو عدد السكان. إذ أن زيادة التعداد تفترض أن تنعكس زيادة في الناتج، والقيم المضافة سنوياً من النشاط الاقتصادي للسكان. وعندما يقلّ النمو الاقتصادي بالمقارنة مع نمو عدد السكان، فإن هذا يعني: أن البنية الاقتصادية لا تقوم على أسس تسمح بتفعيل هؤلاء السكان اقتصادياً، وإتاحة الفرص لهم لينتجوا ويخلقوا الثروات الجديدة.
ويدل هذا المؤشر على التغيّر الكبير في البنية الاقتصادية- الاجتماعية السورية، منذ منتصف السبعينيّات.
فبينما كان الناتج السوري في عام 1965 يقارب 148 مليار ليرة بالأسعار الثابتة، فقد ارتفع إلى 327 مليار ليرة في عام 1975. ونما سنوياً بنسبة وسطية 8,5%. وبالمقابل فإن عدد سكان سورية المتواجدين في داخلها ازداد في حينه من 5,3 مليون نسمة، وصولاً إلى 7,5 مليون نسمة، وبنسبة نمو وسطية سنوية: 3,5%.
أي: أنّ نمو الناتج كان يزيد على ضعفي نمو عدد السكان، ما سمح بزيادة الدخل الوسطي للفرد، ورفع مستويات المعيشة بمستويات هامة، لم تتكرر بعد تلك المرحلة. أي: خلال نصف قرن!
من بعدها انخفض النمو الاقتصادي السوري الوسطي بين 1975- 1985 لينمو بنسبة وسطية سنوية 4,8%، لينخفض نمو الناتج وبمقدار 43%. وبقي نمو السكان كما هو عند حدود 3,5%. وتقلص الفارق بين النمو الاقتصادي والسكاني، ما يعني تقليص قدرة الفرد على توليد النمو.
في المرحلة التالية، أي: بين 1985- 1995، انتقلنا إلى مرحلة أخرى، استمر فيها النمو الاقتصادي بالانخفاض، ليصبح عند حدود 3,8% سنوياً، وينخفض بنسبة 20%، ولكن ليس هذا فقط.
بل إن التراجع المستمر خلال عقدين من الزمن في النمو، بدأ يؤثر على زيادة السكان ذاتها، وتراجع النمو السكاني السوري الوسطي إلى 3,3% عوضاً عن 3,5% في المراحل السابقة. العملية التي استمرت لاحقاً. وتراجع نمو التعداد، يعني: إما تراجع العمر الوسطي للفرد، أو تراجع نسبة الولادات، أو كليهما معاً، كما أنه يعطي مؤشراً على تسارع الهجرة للخارج، حيث إن التعداد المأخوذ هو للسكان داخل سورية.
ما يعني: أن توقف التقدم الاقتصادي الاجتماعي، أثرّ على زيادة السكان المتواجدين في سورية، واشتد هذا التراجع في المرحلة التالية بين عامي 1995-2005. إذ أنه رغم توقف التراجع السريع في النمو الاقتصادي السنوي، الذي أصبح 3,6%، فإنه لم يستطع أن يرمم التراجع في النمو السكاني الذي تراجع إلى 2,5% سنوياً، ليفقد سكان سورية 24% من زخم نموهم في المرحلة السابقة.
أما العقد الأخير بين 2005- 2015، وهو الذي ضم سنوات اشتداد الليبرالية الاقتصادية في سورية، وضم السنوات الخمس الأولى من الأزمة، فقد أخذ المؤشرات إلى مكان آخر...
فالناتج السوري لم يعد ينمو، بل كان يتراجع سنوياً خلال هذه المرحلة بنسبة 5,5%. وأدى هذا إلى انهيار في نسبة النمو السكاني، ليزداد تعداد السوريين بمقدار 0,2% سنوياً فقط، ونخسر 92% من زخم النمو السكاني السنوي.
إن استعادة التطور الاقتصادي الاجتماعي في سورية، يجب أن تكون انطلاقاً من أعلى نقطة في مسار هذا التطور. أي: حيث كان نموذج الاقتصاد السوري، قادراً على تأمين نموٍّ اقتصادي، يزيد على ضعفي النمو السكاني. ويتطلب أيضاً فهم كل الأسباب البعيدة والتغيرات التدريجية في البنية الاقتصادية، التي أدت إلى إعاقة استمرارية التنمية في سورية، والتي شكلّت الأرضية لتراكم الاحتقان، وعدم الرضى الاجتماعي في سورية.
وهو يقول لنا: بأن الموارد المتدفقة ليست المسألة الحاسمة، بل يمكن أن تكون نقمة إذا أدت إلى زيادة قوة الشريحة التي تتطفل على تطور المجتمع، وتغنى من سحب موارده. ويقول: بأن النمو السكاني لا يمكن أن يكون نقمة كما حاول البعض في سنوات الليبرالية أن يروج، حيث إن ارتفاع نسبة النمو السكان في الستينيات، ترافق مع نسبة نمو مرتفعة لم تتكرر. إن التراجع السكاني هو المشكلة التي تحل بالمجتمعات، إثر تدهور التنمية والنمو.