سلاح واشنطن الصامت لحرب صاخبة... أزمة 2019 الاقتصادية
تتجه سياسات النخب المالية الحاكمة في الولايات المتحدة الأمريكية، نحو انعطافات كبيرة بدأت خلال العام الحالي، وستشتد مطلع 2019. تنشر قاسيون ترجمة لمقال للكاتب F. William Engdahl* منشور في موقع global research.
السلاح الأمضى في ترسانة الأسلحة الأمريكية اليوم لا يوجد في البنتاغون، ولا ضمن كل أسلحة القتل التقليدية. ولكنه في الحقيقة يكمن في السلاح الصامت: قدرة واشنطن على التحكم بتدفق المال العالمي، بالدولار.
يتم ذلك عبر البنك الفيدرالي الأمريكي الخاص، بالتعاون مع الخزانة الأمريكية، ومجموعات محددة من الشركات المالية في وول ستريت. الآلية التي تطورت خلال عقود منذ فك ارتباط الدولار بالذهب في عام 1971، والتحكم العالمي بالدولار هو سلاح مالي، ودول قليلة في العالم قد تكون قادرة على تحمل ثقله الهجومي.
«الإنقاذ» بعد 2008 إ
ثقال العالم بالديون
منذ عشر سنوات وفي أيلول 2008، وزير الخزانة الأمريكي والموظف البنكي السابق هنري بولسون، فتحا الهوة على نظام الدولار العالمي عبر السماح للبنك الاستثماري متوسط الحجم «ليمان بروزر» بالانهيار. ومن ثم وبمساعدة مصادر خلق المال اللانهائية من الفيدرالي الأمريكي، التي عرفت بتدفقات «التيسير الكمي»، فإن البنوك الـستة الكبرى في وول ستريت، بما فيها غولدمان ساكس حيث ينتمي بولسون، قد أُنقذت من الانهيار الذي كان متربصاً بها نتيجة عملية الإصدار المشوّه للأوراق والأدوات المالية. الفيدرالي أعطى أيضاً مئات مليارات الدولارات بخطوط إقراض إلى البنك المركزي الأوروبي، لمواجهة نقص الدولار الذي كان يمكن أن يؤدي إلى انهيار الهيكل المالي. في حينها ستة بنوك ضمن منطقة اليورو، كان عليها التزامات بالدولار تقارب 100% من ناتج المنطقة.
ارتفع منذ ذلك الوقت تدفق الدولار الرخيص عبر نظام التمويل العالمي، وبمستويات قياسية. يقدر معهد التمويل الدولي في واشنطن أن دَين الأسر، والحكومات، والشركات، والقطاع المالي في أكبر 30 اقتصاداً عالمياً، قد نما بنسبة 211% من الناتج الإجمالي لهذه الدول، بينما كانت نسبته 143% في عام 2008.
البيانات الصادرة عن معهد واشنطن الدولي، أشارت إلى حجم مصيدة الديون في الاقتصاديات الصاعدة، من أميركا اللاتينية إلى تركيا وحتى آسيا، حيث تبين أن مجموع ديون الدول الصاعدة باستثناء الصين، وبجميع العملات بما فيها المحلية، قد تضاعف تقريباً من 15 تريليون دولار في 2007، وصولاً إلى 27 تريليون في نهاية 2017. بينما انتقل دَين الصين في المرحلة ذاتها، من 6 تريليون دولار إلى 36 تريليون.
ضمن ديون الدول الصاعدة هذه، فإن الكتلة المسجلة بالدولار قد نمت وصولاً إلى 6.4 تريليون دولار بينما كانت 2.8 تريليون دولار في 2007. الشركات التركية مثلاً: يترتب عليها الآن 300 مليار دولار من الدَّين الأجنبي بالدولار، وهو نصف الناتج التركي.
خلال المرحلة التي كانت الاقتصاديات الناشئة هذه تنمو، فإن العائد من تصدير الدولارات كان يرتفع، والدَّين كان محمولاً. والآن كل ما سبق يتغير.
وكيل هذا التغيير هو البنك المركزي الأكثر تسييساً عالمياً، أي: الفيدرالي الأمريكي، حيث يعلن حاكمه الجديد، بأن الاقتصاد الأمريكي المحلي قوي بما يكفي، حيث من الممكن إعادة أسعار الفائدة إلى حالتها (الطبيعية) بعد أن وصلت إلى مستوى الصفر في الفترة الماضية.
الفيدرالي قد بدأ بإجراء تحوّل هائل في تدفق سيولة الدولار عبر العالم. الفيدرالي يعلم ما يفعل تماماً، إنه يعزز مسامير الدولار ليطلقه لأزمة اقتصادية قادمة في الدول الصاعدة، وتحديداً من دول في أوراسيا مثل: إيران وتركيا، وروسيا والصين.
على الرغم من كل الجهود المبذولة في هذه الدول، للابتعاد عن الاعتماد على الدولار الأمريكي في التجارة والتمويل الدوليين، إلّا أن الدولار لا يزال دون منازع، العملة الاحتياطية للبنوك المركزية العالمية، ونحو 63% من جميع احتياطيات بنك التسويات الدولية (بنك البنوك المركزية).
إضافة إلى ذلك، فإن ما يقرب من 88% من تجارة العملات الأجنبية اليومية هي مقابل الدولار الأمريكي، معظم صفقات تجارة النفط والذهب والسلع مقومة بالدولار. أما اليورو فمنذ الأزمة اليونانية في عام 2011 لم يعد منافساً جدّياً لهيمنة الدولار كاحتياطي للعملات، حيث تبلغ حصته 20% اليوم.
لقد رفعت الأزمة المالية في عام 2008، من أهمية الدولار، والاحتياطي الفيدرالي إلى مستويات غير مسبوقة. وقد بدأ هذا الأمر في الظهور الآن. حيث بدأ العالم يستشعر بنقص الدولار منذ عام 2008. وهو ما يعني: زيادة تكاليف الإقراض، اللازمة لتمويل الديون السابقة بالدولار. ستصل الديون مستحقة السداد في عام 2019 في الدول الصاعدة إلى مستوى 1.3 تريليون دولار. وهذا الاستحقاق المرتفع سيتواجه مع فخ الديون.
يكمن الفخ، بأن الفيدرالي يعلن أنه سيرفع الفائدة في عام 2019، وليس هذا فقط بل سيوقف التمويل الإضافي عبر سندات دَين الدولار، أي: عبر آلية التيسير الكمي. أي: ستستحق ديوناً كثيرة، وبالمقابل لن يكون الدولار متوفراً كما السابق للإقراض، وإن توفر فبتكاليف أعلى.
ستبدأ عملية معاكسة تسمى بالتشديد الكمي، عوضاً عن التيسير الكمي.
التشديد الكمي بعد التيسير الكمي
بعد عام 2008 كما ذكرنا، فإن الفيدرالي بدأ بما يسمى التيسير الكمي. حيث باع الفيدرالي مبلغاً مذهلاً من السندات إلى البنوك بلغ 4.5 تريليون دولار، انطلاقاً من مستوى 900 مليار دولار في بداية الأزمة. والآن يعلن خططه ليقلل هذا التدفق بمقدار الثلث في الأشهر القادمة.
كانت نتيجة عملية التيسير الكمي، أن غُمرت البنوك منذ عام 2008 بالسيولة، وانخفضت أسعار الفائدة إلى الصفر. وهذه السيولة البنكية بدورها انتقلت لتستثمر في جميع أصقاع العالم، لتحقق عوائد عالية لهذه البنوك، التي حصلت على الديون بفائدة تقارب الصفر. فمثلاً: ساهمت هذه الأموال في طفرة قطاع النفط الصخري في الولايات المتحدة، وفي فقاعة صغيرة في قطاع الإسكان. وقد ذهبت الدولارات هذه أيضاً إلى الاستثمار الخطر في دول صاعدة، مثل: تركيا، والبرازيل، والأرجنتين، وإندونيسيا، والهند. وكذلك وصلت إلى الصين حيث كان الاقتصاد ينمو، كما وصلت إلى روسيا قبل أن يبدأ اشتداد العقوبات الأمريكية مطلع هذا العام.
الآن بدأ الاحتياطي الفيدرالي بالعملية العكسية، التشديد الكمي. في أواخر عام 2017 بدأت العملية ببطء، حيث قلص الفيدرالي سندات الدولار المسالة إلى النظام البنكي. في أواخر 2014 أوقف الفيدرالي أيضاً شراء سندات من السوق، وبالمقابل رفع سعر الفائدة. وفي الصيف الحالي أصبحت عملية التقليص واسعة ومعلنة. بعدها الرئاسة الأمريكية، أطلقت حرباً تجارية موجهة وعدائية، هدفها خلق حالة عدم يقين في الصين، وأمريكا اللاتينية، وتركيا، وغيرها، بالإضافة إلى العقوبات الاقتصادية على روسيا وإيران.
اقتطاعات ترامب البنكية ستضيف مئات المليارات إلى عجز الميزانية الأمريكية، وهو ما سيحتاج إلى تمويلها عبر إصدار سندات الدَّين من وزارة الخزانة الأمريكية، وسيكون على الحكومة الأمريكية أن تدفع مقابلها فوائد أعلى.
وبشكل عام فإن عملية تقليص تدفق الدولار، ورفع أسعار الفائدة، ستلعب دوراً في امتصاص الدولار ليعود إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
وتحت ضغط الفيدرالي الأمريكي، فإن البنوك المركزية الأخرى في اليابان والمركزي الأوروبي، أعلنوا أيضاً أنهم لن يشتروا مزيداً من السندات، وسيخفضون التدفقات في مناطقهم. يبدو الأمر مثيراً بالفعل، فالاحتياطي الفيدرالي يسير بخطوات عكسية تماماً لما سبق، ويتجه نحو التشديد الكمي الجديد، ليتجنب أزمة اقتصادية عالمية قادمة. وفي هذا المنعطف القادم، فإن البنوك المركزية عبر العالم وكما في عام 2008، ترقص على نغم الفيدرالي الأمريكي، وكما قال هنري كيسنجر في عام 1960: «إذا تحكمت بالمال، تتحكم بالعالم».
أزمة اقتصادية جديدة في 2019؟
إن أثر تقليص كتلة الدولار تدريجي وبطيء، حتى الآن، ولكنه يقترب من مسار دراماتيكي متسارع. زادت الميزانية العمومية المشتركة للبنوك المركزية لمجموعة G-3 (الفيدرالي الأمريكي- الياباني- الأوروبي)، بمقدار 76 مليار دولار في النصف الأول من عام 2018، بالمقارنة مع 703 مليار دولار في الأشهر الست المقابلة، أي: أن أكثر من نصف تريليون دولار مقدار تقلص كتلة الإقراض الدولية.
وكالة بلومبرغ، قدرت أن مقادير التدفق من قبل البنوك المركزية الثلاثة، ستنخفض إلى الصفر، في نهاية العام الحالي. بعد أن كان المستوى أكثر من 100 مليار دولار شهرياً حتى نهاية عام 2017. وهو ما يعني: تقلص سنوي بمقدار 1.2 تريليون دولار في سيولة الدولار في عام 2019 عبر العالم.
يظهر الأثر في تركيا على سبيل المثال، حيث إن انخفاض الليرة التركية بمقدار النصف منذ بداية العام الحالي، يعني: أن الشركات الكبرى في تركيا، التي كانت قادرة على اقتراض الدولارات الرخيصة سابقاً، يجب أن تجد الآن ضعف المبلغ السابق، لتخدم تلك الديون. حيث الاقتراض التركي من الشركات الخاصة، وحيث إن سيولة الدولار حافظت على نمو الاقتصاد التركي منذ الأزمة المالية في عام 2008. والأمر لا يقتصر على تركيا، فمجموعة دول أخرى مثل: باكستان، وكوريا الجنوبية وغيرها، عدا الصين، قد وصلت مبالغ ديونها إلى 2.1 تريليون دولار.
خلال المرحلة الماضية كانت عملات الدول الصاعدة تنخفض مقابل الدولار، ولكن إبقاء الفيدرالي للسعر المنخفض للفائدة خلال المرحلة بين 2008- 2015، كان يحجّم من المشكلة. ولكن الآن فإن التغير المرتقب، سيجعل الدولار يرتفع بقوة مقابل العملات الأخرى، وقد ارتفع هذا العام بنسبة 7%. بالإضافة إلى هذا، فإن واشنطن بتأجيجها للحرب التجارية، والاضطرابات السياسية، وبخروجها من الاتفاق النووي الإيراني، وعقوباتها الجديدة على روسيا، وإيران وكوريا الشمالية، وفنزويلا، وبالإجراءات الاستفزازية غير المسبوقة تجاه الصين. فإن سياسة نشر الحرب هذه، تؤدي إلى (العودة إلى الأمان المالي)، بتدفق الأموال خارجة من دول مثل: تركيا، والصين، وغيرها إلى أسواق الولايات المتحدة.
الفيدرالي يهاجم بسلاح الدولار، والظروف الحالية باتجاهات عديدة، تشبه المرحلة التي سبقت الأزمة الآسيوية في عام 1997. عندما كان كل المطلوب هو الهجوم على أضعف حلقة في اقتصاديات آسيا في تايلاند ليشعل فتيل الانهيار في معظم جنوب آسيا إلى كوريا الجنوبية، وحتى هونغ كونغ في حينها. اليوم الزناد المرتقب للأزمة، هو ترامب، وتغريداته الحربية ضد تركيا وأردوغان.
إن حروب ترامب التجارية، والعقوبات السياسية، وقوانين الضرائب الجديدة، تأتي ضمن استراتيجية الفيدرالي الأمريكي للتضييق المالي، وهي تؤمن الأجواء لشن حرب بالدولار ضد خصوم سياسيين رئيسين عالمياً. حيث إن الإجراءات الكبيرة ضد الاقتصاد الصيني الضخم، والعقوبات السياسية ضد الحكومة التركية وضد روسيا. كل هذا يدفع البنوك عبر العالم من باريس إلى ميلان إلى فرانكفورت ونيويورك، وكل البنوك التي لديها قروض دولارية في الأسواق الصاعدة، ستبدأ بالهروب سريعاً والخروج من هذه الأسواق...
إذا نجحت واشنطن في 4 تشرين الثاني، بقطع جميع الصادرات النفطية الإيرانية كما تدعي، فإن أسعار النفط العالمية سترتفع إلى ما يزيد على 100 دولار. الأمر الذي سيؤدي إلى زيادة الطلب على الدولار عبر العالم.
إن استخدام هذا السلاح في هذا التوقيت، قد يتسبب بنكسة خطيرة للاستقلال المتزايد للبدان الأوروبية والآسيوية، ويستهدف المشاريع الجديدة كمشروع طريق الحرير، ومشروع العملات البديلة. إن دور الدولار كاحتياطي عالمي، وقدرة الفيدرالي الأمريكي على التحكم به، هو سلاح دمار استراتيجي بالنسبة للهيمنة الأمريكية. فهل ستكون الأمم الأخرى في أوراسيا وحتى في أوروبا قادرة على المواجهة بفعالية؟
*F.William Engdahl: استشاري ومحلل استراتيجي من جامعة برينستون.
يتحدث كاتب المقال عما يسعى مالكو المال في واشنطن، افتعاله من أجل المحافظة على نظام الدولار العالمي، حيث يسعّرون أزمة الديون، وينشرون الفوضى الاقتصادية كي تعيق تقدم الآخرين. ولكن هذه العملية التي تستهدف حماية الدولار، الواقع تحت التهديد الجدي للبدائل، ولتوازن القوى الاقتصادي العالمي... هي عملية ضرورية لمالكي المال، ولكنها شديدة الخطورة على منظومتهم نفسها. فالجزء الأكبر من الدين العالمي هو دين الحكومات في الدول المتقدمة، وهو يهدد هذه الدول وجودياً. الأمر الذي ينعكس بمقاومة هناك تظهر كما في الحالة الإيطالية مثلاً حيث تعلن الحكومة عزمها على الامتناع عن السداد، وتدعوا لشطب ديونها. الدين العالمي غير قابل للسداد، وفتح مسألة المطالبة به، سيسرع حكماً الانقلاب على العالم المالي للدولار، ويجعل البدائل ضرورة بعد أن كانت إمكانية.