(معجزة التصنيع الستالينية)
فالنتين كاتاسانوف فالنتين كاتاسانوف

(معجزة التصنيع الستالينية)

تجري مراجعة جادة في روسيا لمرحلة قيادة ستالين للاتحاد السوفييتي، وتعاد قراءتها والنظر إليها من خارج منظار الدعاية الغربية العالمية الموجهة ضد القائد السوفييتي الهام.


المقال التالي يقدم ترجمة لخلاصة من كتاب الباحث الروسي فالنتين كاتاسانوف (اقتصاد ستالين)، والتي نشرها الكاتب في مقال بعنوان: (المعجزة الاقتصادية لروسيا)، حول سنوات التصنيع العشر في ثلاثينيات القرن الماضي.

مرحلة تداعٍ اقتصادي عالمي
بدأ التصنيع في روسيا منذ 90 عاماً مضت، تُترّخ بداية التصنيع بين عامي 1928- 1929. وتتشابه ظروف الاتحاد السوفييتي في مرحلة إقلاع التصنيع، وما يحدث الآن في روسيا، إلى حد بعيد. والتشابه الأساس: أن المرحلتين تشهدان فوضى وتداعياً اقتصادياً عالمياً. حيث إن السنوات العشر بعد ثورة 1917 تضمنت حصاراً اقتصادياً، ومرحلة الاعتداء الخارجي، والحرب الأهلية بين 1917-1922.  والآن نحن بعد قرابة 25 عاماً عن تأسيس الفيدرالية الروسية، وأكثر من ثلاثة عقود إذا أرّخنا لها منذ انطلاقة البيروسترويكا، خلال مرحلة ميخائيل غورباتشوف، نمرّ بمرحلة عقوبات اقتصادية، وتوتر سياسي عالمي يتقاطع مع تلك المرحلة، ويتطلب الاستفادة من آليات المواجهة في حينها.
سأعرض نقاطاً مفتاحية أساسية، أرقام وتواريخ مرتبطة بالتصنيع السوفييتي. وبعدها سأحاول أن أجري بعض التعميمات، والخلاصات التي لها دلالات ومؤشرات عملية لظروف اليوم.

(النيب) ومرحلة ما قبل التصنيع
أولاً: وقبل كل شيء، علينا أن نعير انتباهنا إلى حقيقة أن فترة التجهيز للتصنيع في الاتحاد السوفييتي كانت قصيرة جداً، فكلمة (التصنيع) لم تكن مصاغة ومعرّفة لدى البلاشفة حتى عام 1925، حيث في شهر 12 من ذلك العام، وفي المؤتمر الـ 14 للحزب الشيوعي. صيغت مهمة التصنيع، وأعلنت المفردة للمرة الأولى.
علي أن أذكركم بأن البلاد كانت تختبر في تلك المرحلة سياسة «النيب»، وهي السياسة الاقتصادية الجديدة للحزب والبلاد، التي بدأت في 1921 والتي أتت عوضاً عن سياسة ما يمكن تسميته (اقتصاديات الحرب/  العسكرة) في مرحلة الصراع خلال 1918-1921. إن إطلاق النيب، كان يعني لبرلة واسعة للحياة الاقتصادية، والتي أصبحت معتمدة وسائدة في البلاد، ولكنها لم تترافق مع تحرير علاقات السوق بشكل كامل، وإطلاق تحكمها. وقد انتعشت المضاربة في تلك المرحلة، مع تضخيم لتوسيع التجارة، وتوسع في مجال البنوك والمعاملات فيما بينها، مقابل تراجع في حصة الاقتصاد الحقيقي في الاقتصاد السوفييتي (بما يشبه إلى حد بعيد الوضع الحالي في روسيا). ولكن هذا كان يجري في ظرف الحصار الاقتصادي من قبل الحلفاء السابقين للإمبراطورية الروسية، والذي تحول إلى اعتداء عسكري غربي ضد الاتحاد السوفييتي، وهو ما يمكن أن يحدث في أي وقت آخر. وكان من الضروري الاستعداد لتقوية الاقتصاد، وأولاً وقبل كل شيء الصناعة. وهو ما يمكن أن يتم عبر وضع معايير وخطة، أطلق عليها لاحقاً (التصنيع).

(إذا لم ننجح سنُسحق)
لم يكن مصطلح التصنيع معروفاً حتى عالمياً، إلّا لحلقة ضيقة من المؤرخين الاقتصاديّين، حيث كان يعبر عن آلية تنمية الصناعة في الدول القيادية في الغرب. أولاً: في بريطانيا حيث الثورة الصناعية أخذت موضعها الأول، وامتدت خلال المرحلة من الثلث الأخير من القرن الثامن عشر، وحتى منتصف القرن التاسع عشر، حيث أصبحت بريطانيا الرقم واحد على الصعيد العالمي التصنيعي، وقد تم إنجازها ليس بالموارد المحلية، بل عبر التمويل القادم من المستعمرات البريطانية، والتي استمر وجودها حوالي 70 عاماً. التصنيع لاحقاً انتقل إلى ألمانيا، وفرنسا، وسائر الدول الأوروبية، ومن ثم إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وقد امتدت عملية التصنيع في كل منها لعقود متتالية، وفي بدايات القرن العشرين شهدت المواضع المتقدمة بالتصنيع تغيرات، حيث أصبحت الولايات المتحدة وألمانيا في المراتب الأولى، وتراجعت بريطانيا إلى المرتبة الثالثة. أما روسيا في تلك المرحلة وقبل الثورة كانت بمعايير التصنيع تجاور فرنسا، لتحتل كل منهما المرتبتين الرابعة الخامسة في التصنيف العالمي لمستوى تطور الصناعة.
الاتحاد السوفييتي لم يكن يمتلك الوقت للانتظار، وكان من الضروري تطوير التصنيع في أقصر وقت ممكن. ومع انتهاء العشرينيات، ومطلع الثلاثينيات من القرن العشرين، أشار ستالين إلى أننا نقف وراء الدول المتقدمة بحوالي 50- 100 عام، وعلينا أن نتجاوز هذه الفجوة خلال عشر سنوات، و(إذا لم ننجح فإننا سنُسحق)، كما قال ستالين في حينها.

تحضير سياسي وإداري
صيغ في الاتحاد السوفييتي منتصف العشرينيات هدفان أساسان في مجال التصنيع: أولاً: ضمان استقلالية البلاد لتجاوز أثر كل أنواع العقوبات والحصار من الغرب، وثانياً: تطوير قدرة البلاد الدفاعية، لنستطيع أن نصد الاعتداءات العسكرية الغربية.
التحضير للتصنيع تم خلال وقت قصير، وقد تم باتجاهين أساسين:
الأول: سياسي، وأسسه تعتمد على قيادة الحزب والدولة للبلاد، بما يسمح بتخفيض العرقلات السياسية للسير بعملية التصنيع بقوة، وقد تمت العمليات السياسية لاستبعاد القوى المناهضة، بناء على موقفها من المهمة الأساسية في حينه أي: التصنيع.
المرحلة الثانية من التحضير هي: التنظيم والإدارة. في منتصف العشرينيات، عندما كانت مهمة التصنيع قد أصبحت معلنة، لم يكن أحد يفهم كيف ستتحول إلى تطبيق عملي. وقد اتضح أن الوصول إلى هدف التصنيع، وسياسة النيب لا يمكن أن يجتمعا معاً، بل التصنيع يحتاج إلى نموذج من «اقتصاد التعبئة».
هذا النموذج قد تم خلقه بنتيجة نقاشات عديدة بين المتخصصين، وفي مستويات الحزب، والدولة. وقد بدأت عناصر الآلية الاقتصادية الجديدة تظهر وتتشكل.

مبادئ عامة لنموذج التصنيع
عملياً فإن المحددات العملية للآلية الاقتصادية المتبعة، كانت تتم عبر التجربة، والأخطاء. وسألخص المبادئ الأهم لعناصر نموذج الاقتصاد الاشتراكي المتشكل في حينه:
الدور القيادي للقطاع العام في تطوير الصناعة، وقطاعات عديدة أخرى في الاقتصاد، بينما جزء هام من الإنتاج الصناعي للسلع الاستهلاكية، وكذلك في الزراعة، كان تعاونياً.
مستوى عالٍ من المركزية في الإدارة على مستوى الاقتصاد الكلي الإجمالي.
الطبيعة المخططة للاقتصاد، عبر الخطط الخمسية والسنوية، كانت إلزامية التنفيذ.
وضع المؤشرات التخطيطية لتطوير النشاط الاقتصادي، لتكون شاملة وتمتد من هيئات التخطيط العليا، إلى الشركات.
وجود حدود لدوران النقد محلياً، حيث يتم التبادل عبر النقد في التعامل بين السكان ومعهم، وفي سوق الاستهلاك النهائي للبضائع والخدمات، بينما سوق التبادل بين الشركات التي تقدم المعدات والآلات، والمواد الخام، والمنتجات نصف المصنعة وغيرها، لم تكن بالنقد الكاش. حيث تجاور الشكلان من التبادل مع بعضهما البعض.
العملات الأجنبية والتجارة الخارجية بيد الدولة فقط.
عدم قبول عمل رؤوس الأموال الأجنبية داخل البلاد، حيث كانت تتواجد جزئياً، واختفت في مطلع الثلاثينيات.
تفوق تطوير إنتاج وسائل الإنتاج أي: منتجات الفرع الأول، على إنتاج وسائل الاستهلاك من الفرع الثاني.
إنشاء صناديق الاستهلاك العام، والتي من خلالها تتطور الخدمات الاجتماعية مثل: الرعاية الطبية، والتعليم، والثقافة، ودعم الأجور.
آلية توزيع الدخول على السكان، تأخذ بعين الاعتبار درجة كثافة العمل الذي يقوم به الفرد، وإنهاء تدريجي للدخول التي لا تنشأ عن أعمال، مثل: دخل رأس المال، ودخل العقارات، ما أدى إلى إنهاء الاستقطاب والفوارق الاجتماعية الكبيرة في الدخول والممتلكات.
وجود الحوافز المادية والاجتماعية للعمل، مثل: المنافسة الإنتاجية، حركة الترشيد في المؤسسات، وغيرها.
القائمة تطول في توصيف الميزات والآليات لهذا النموذج، فعلى سبيل المثال: يمكن الحديث عن خصوصيات النظام المصرفي في الاتحاد السوفييتي. حيث امتلكت الدولة المنظومة المصرفية، وتقلص عدد البنوك والمنظومة الائتمانية إلى 12 فقط. الدخول في التفاصيل يتطلب كتيبات حول آليات النموذج، الذي يطلق عليه عادة (الاشتراكي/ السوفييتي). ولكن الأصح نسبه لستالين. حيث تم إنشاؤه واستكماله في مرحلة إدارته، وتم تفكيكه تدريجياً بعد وفاته في عام 1953. وقد أطلق خروشوف بداية التفكيك، واستمرت العملية في منتصف الستينيات عندما بدأ الإصلاح الاقتصادي في الاتحاد السوفييتي، ليتم التحول إلى نموذج مختلف.

الخطة الأولى 1928-1932
(الخرق الأكبر)

إن هذا ليس سوى مقدمة حول التصنيع الاشتراكي الذي تم في روسيا، والذي يضع البعض تاريخه في أكتوبر 1928، عندما تم إطلاق الخطة الخمسية الأولى. حيث تم وضع مهمة بناء 1200 منشأة وشركة صناعية. وقد تم إقرارها في مجلس السوفييتات الخامس المنعقد في أيار 1928. وسميت المهمة في حينها: (الخرق الأكبر).
على الرغم من العزيمة والدعاية القوية للخطة، إلّا أنّ العامين الأولين كانا في غاية الصعوبة، وأقل ما يقال عنهما: (لم يحالفهما النجاح). فلم تتحقق المؤشرات المخططة وحصلت تعديلات، ومن حيث النوعية كثير من المشاريع قيد الإنشاء لم تلتزم بالمستويات المطلوبة، ولم يكن هناك ما يكفي من العملات الأجنبية لشراء المعدات من السوق العالمية، وكان هنالك نقص في العمالة في العديد من المشاريع، استمر حتى عام 1930 تقريباً.
ولكن يمكن القول: إن الأخطاء كانت تصحح بسرعة وحسم، فعلى سبيل المثال: تم تجاوز نقص العمالة عبر التعجيل في التجميع الزراعي، ونقل اليد العاملة من الزراعة للصناعة، عبر تزويد المزارع الجماعية بالجرارات والآلات التي استوردت في بداية الأمر، كما تم التركيز من أجل تأمين النقد الأجنبي على تطوير صناعة تعدين الذهب في الشرق الأقصى الروسي، وغيرها من الآليات العملية والضرورية.
ومنذ عام 1930 انقلبت صورة العامين الأوليين، بل بدأ التنفيذ يفوق الخطط. ففي عام 1930 تم إنشاء حوالي 1500 منشأة، و50 منها كانت كبيرة جداً تمثل نصف الاستثمارات في المعدات عبر البلاد. وبحلول نهاية الخطة الأولى أي: في عام 1932، كان قد تم بناء عدد من المنشآت الصناعية السوفييتية العملاقة المعروفة لليوم.
في نهاية عام 1932 تم الإعلان عن الانتهاء بنجاح من الخطة الخمسية الأولى في أربع سنوات وثلاثة أشهر. وقد أوضح ستالين في عرضه للنتائج: إن الصناعة الثقيلة قد حققت الخطة بنسبة: 108%. زادت الأصول الثابتة للصناعات الثقيلة 2,7 ضعف. وازدادت حصة الصناعة من الناتج الإجمالي من 54,5% في عام 1929، وصولاً إلى 70,7% في عام 1932. وأعلن بحزم: (بلادنا قد أصبحت دولة صناعية).

الخطتان الثانية والثالثة: آلات ودفاع
أتت الخطة الخمسية الثانية بين 1933-1937، والتي وضعت مهمة تحرير الاتحاد السوفييتي من استيراد السلع الاستثمارية تدريجياً. وإنشاء شركات لإنتاج الآلات والمعدات لتلبية احتياجات الصناعة والفروع الأخرى للاقتصاد، وأيضاً تم إنهاء الأهداف قبل الموعد المحدد.
وتضاعف الإنتاج في بعض القطاعات في عام 1937 بالقياس إلى 1928 عام بداية الخطة الأولى بنسب استثنائية نذكر منها: الحديد 439%- الصلب: 412%- المعادن الحديدية المدرفلة 382%، الفحم 361%، النفط 246%، الكهرباء 724%، ماكينات قطع المعادن 2425%- السكر الرملي 189% وغيرها...
وفي نهاية الخطة الخمسية الثانية أصبح الاتحاد السوفييتي القوة الاقتصادية رقم 2 عبر العالم، بعد الولايات المتحدة، وبظرف 10 سنوات.
ثم بدأت الخطة الخمسية الثالثة (1938-1942) والتي ارتهنت وفق الضرورة لإنشاء شركات الدفاع، وقد اعترضتها الحرب الوطنية العظمى في 1941-1945.
الإنتاج الصناعي الإجمالي في الفترة بين 1928-1937 نما بمعدل 250%-350%، وكان النمو السنوي في حدود 10,5-16%. وكذلك نما الناتج من الآلات في هذه الفترة بمعدل متسارع 27,4% سنوياً. وهذه الأرقام ليست من الدعاية الحزبية، كما يود ليبراليو روسيا القول، بل هي مأخوذة من مصادر غربية ذات طبيعة أكاديمية سنذكرها في نهاية المقال*.
في النهاية أود القول: إنه مع بداية الحرب، كان قد تم بناء أكثر من 9000 مصنع جديد في الاتحاد السوفييتي خلال سنوات التصنيع العشر، أليست هذه معجزة اقتصادية؟! ألا يتلاشى مقابلها كل إعجاب الليبراليين بالمعجزات اليابانية والكورية الجنوبية والألمانية وغيرها من المعجزات الاقتصادية (الأجنبية).
أعتقد أن الشعب الروسي يود أن يعرف المزيد عن معجزتنا الاقتصادية، ولكن هذا ينبغي ألّا يكون بدافع الفضول فقط، ولكن من أجل فهم كيفية تطبيق تجربة تصنيع ستالين في روسيا اليوم.


1500 منشأة
تم في عام 1930 العام الثالث من الخطة الخمسية الأولى إنشاء 1500 منشأة صناعية.

70,7%
أصبحت حصة الصناعة من ناتج الاتحاد السوفييتي في نهاية الخطة الخمسية الأولى عام 1932 70,7%.

250%
تضاعف الإنتاج الصناعي السوفييتي خلال أقل من عشر سنوات بمعدل أقله 250% ويصل إلى 350%.

27,4%
بلغ النمو السنوي لإنتاج الآلات الصناعية في الاتحاد السوفييتي 27,4% خلال الفترة بين 1928_1937.

 

*فالنتين كاتاسانوف: بروفسيور في معهد موسكو الحكومي للتمويل الدولي، دكتور في العلوم الاقتصادية، رئيس قسم العلاقات النقدية الدولية بوزارة الشؤون الخارجية الروسية بين 2001-2011.
Moorsteen R. Prices and Production of Machinery in the Soviet Union, 1928-1958. - Cambridge, Mass,  Harvard University Press, 1962.
Wheatcroft SG, Davies RW, Cooper JM Soviet Industrialization Reconsidered: Some Preliminary Conclusions about Economic Development between 1926 and 1941. // Economic History Review, 2nd ser. 1986. Vol. 39, No. 2.

آخر تعديل على الإثنين, 23 تموز/يوليو 2018 11:31