هل يمكن سداد الدين العالمي؟
ليلى نصر ليلى نصر

هل يمكن سداد الدين العالمي؟

صدر تقرير جديد للرصد المالي لصندوق النقد الدولي بتاريخ نيسان 2018، وتركز اهتمامه على الدين العالمي المتوسع. ليشير إلى وصوله إلى مستويات غير مسبوقة، حيث 12% من الناتج العالمي أصبح غارقاً في الدين بمستويات أعلى من مستويات أزمة عام 2009.

ارتفع الدين العالمي خلال عقد تقريباً من 116 ترليون دولار، وصولاً إلى 164 في نهاية عام 2016، بينما وصل في عام 2017 وخلال الأشهر الثلاثة الأولى منه إلى 217 تريليون دولار، وهي نسبة 327% من الناتج الإجمالي العالمي.
الصين ساهمت بـ 43% من زيادة الدين
ورغم أن دين الولايات المتحدة الأمريكية هو الأكبر عالمياً، إلا أن الدين الصيني هو الأكثر توسعاً خلال هذه الفترة. حيث ازداد من حدود 5 ترليون دولار، وصولاً إلى 26 في عام 2016. مساهماً بحسب الصندوق بنسبة 43% من الزيادة في الدين العالمي خلال هذه الفترة.
وتتركز الديون الصينية في القطاع الخاص الصيني، حيث ساهمت ديونه بحوالي ثلاثة أرباع الزيادة في الدين الخاص العالمي.
أما عن ديون «الدول المتقدمة» فلا تزال الأكبر حجماً، حيث يشكل دين الولايات المتحدة واليابان مجتمعاً حوالي نصف الدين العالمي، ومن بين هذه الدول فإن الصندوق يرشح أن تكون الولايات المتحدة هي البلد الوحيد الذي ستستمر ديونه بالارتفاع. وأكثر من ثلث الدول المتقدمة تجاوز دينه سقف الديون البالغ 85% من الناتج المحلي الإجمالي، بينما كان عددها في عام 2000 أقل بثلاث مرات. ويضاف إلى ذلك أخيراً أن أكثر من 19 دولة إضافية عبر العالم قد تجاوزت في عام 2017 سقوف الدين المقدرة وفق النسبة المذكورة سابقاً 85% من الناتج الإجمالي.
دين غير قابل للسداد!
السؤال المنطقي والبسيط في اللحظة الحالية هو: كيف سيتم سداد هذا الدين؟ ولمن سيتم سداده؟
نستطيع القول، وبافتراضات أولية للإجابة، إن سداد الدين العالمي يعني أن ينتج العالم أكثر من ثلاثة أضعاف الناتج العالمي الحالي، مضافاً إليها الفوائد التي تتجه للارتفاع. ويعني أن يسدد هذا الناتج لأكبر الدائنين عبر العالم، وهو الفيدرالي الأمريكي: فنسبة 70% من الدين العالمي بالدولار الأمريكي.
إن هذا الدين يفوق قدرات الاقتصاد العالمي على السداد، وهو قنبلة موقوتة في وجه كل اقتصاديات العالم. وما توسعه الهائل إلا نتيجة لعملية ضخ المال الهائلة بعد الأزمة المالية العالمية من المصارف المركزية الغربية، وتحديداً من مركزها في الفيدرالي الأمريكي.
بدأ البنك الاحتياطي الفيدرالي بإيقاف توسيع الدين، «والمال الرخيص» منذ عام 2016، وذلك برفع أسعار الفائدة من 0.37% وصولاً إلى 1.75% حالياً، وتشير التوقعات إلى أن أسعار الفائدة قد تصل في نهاية عام 2019 إلى 2.9%، وإلى 3.75 في نهاية عام 2020.
وهو ما يعني: أن الديون التي كانت كلفة فوائدها 100 في عام 2016 وصلت تكاليف فوائدها اليوم إلى 372، وستصل في نهاية عام 2020 إلى أكثر من 900!
المفارقة، بأن رفع أسعار الفائدة عالمياً، سيجعل النمو الاقتصادي الهش والمتباطئ عبر العالم، أكثر تباطؤاً. وسيعني بدء فشل سداد الدين العالمي، وبدء عملية واسعة من عمليات الاستحواذ عالمياً. فالدائن إن لم تسدد له دينك، يستطيع أن يصادر أموالك وثرواتك. وتحديداً في اللحظة الحالية حيث تستطيع المنظومة الغربية أن تضيق على المقترضين عالمياً وتحاصرهم، عبر منظومة التبادل العالمية التي يحكمها الدولار ومؤسساته الكبرى.
لماذا انتشر الدين في الدول الصاعدة؟
لقد كان توسع الدين العالمي في الدول الصاعدة اتجاهاً موضوعياً بعد الأزمة المالية العالمية، مدفوعاً بمصلحة الطرفين أي: المركز المالي في الغرب، ومراكز القوى الصاعدة.
فالطرف الأول يريد نشر «أمواله المسمومة» صفرية التكلفة، ويريد أن يتحول إلى ممول أساسي للإنتاج القادر على التوسع نسبياً في الدول الصاعدة، بالقياس إلى صعوبات التمويل الحقيقي في المركز المشبع برأس المال، والذي ينخفض معدل الربح فيه بشكل مستمر تقريباً منذ السبعينيات.
أما الطرف الثاني من المنتجين الكبار في الدول الصاعدة، فقد سعوا إلى توسيع الاستفادة من التمويل الغربي منخفض التكلفة في المرحلة التي أعقبت الأزمة المالية، ووسعوا النمو والإنتاج الاقتصادي، حيث حدثت نقلات نوعية تحديداً في الصين، والهند، الدولتان الأكثر نمواً ووزناً.
أما الآن، فقد اقتربت لحظة حاسمة، عندما توقفت قدرات الدين عن التوسع، وأصبح إنتاج القوى الصاعدة في وجه تراجع الطلب العالمي، وفي وجه المسعى الغربي لحصد الغنائم، عبر رفع أسعار الفائدة.
على الرغم من التعقيد الواسع في ظاهرة الدين العالمي، إلا أن تبسيطها يمكن أن يوضح الصورة، فالمركز المالي العالمي يريد برفعه لأسعار الفائدة عالمياً، أن يستعيد الدين. أي أن يستعيد المال الغربي المتحول إلى ثروات وشركات في الدول الصاعدة وعبر العالم. ويحول بهذا الدولارات المطبوعة بتكلفة صفرية إلى ثروات حقيقية من الاستحواذ على الإفلاسات العالمية. وهذه الفوضى تتيح له تجميع الثروات، وموقعاً أقوى في الضغط على القوى الصاعدة لمنع التحولات في النظام النقدي والمالي العالمي التي تحاول القوى الصاعدة أن تنشئها.
ولكن هذه الفوضى ستجعل الخيارات قليلة، وجذرية لدى أطراف العالم التي وسعت إنتاجها، وسيكون على الصين وغيرها، أن تشتري ديون شركاتها، وتمنع انتقالاً كبيراً في الثروة... وأن تبدأ عمليات تفاوض عالمية واسعة على هذا الدين الهائل. تفاوض قائم على تمتين أدوات عدم السداد، وفي مقدمتها: تشكيل منظومة تمويل وتبادل بديلة تزيح هيمنة الغرب. الدين ليس موضع صراع وفوضى اقتصادية فقط، بل هو أداة في صراع الغرب للإبقاء على هيمنته ومنظومته أطول وقت ممكن، وقد يتحول إلى موضع الرد الجذري للقوى الصاعدة، وتسريع نموذج عالمي بديل.