التوزيع السوري الجائر... للدخل القليل!
في سورية اليوم، ما ينتج لا يكفي لكي يكون كل السوريين قادرين على العيش، والأسوأ أن هذا القليل المنتج يوزع بشكل مجحف وغير إنساني. وإن كان توزيع الدخل أو الناتج عبر العالم غير عادل، إلا أنه في سورية ظالم بشكل غير قابل للاستمرار.
1200 دولار سنوياً للفرد
بداية يجب الوصول إلى تقدير للناتج، وسنعتمد رقم 22 مليار دولار لعام 2016 الذي تقدره الجهات الاقتصادية الدولية، وسنعتمد في عدد السكان داخل سورية رقم 18,3 مليون سوري من تقديرات منظمة الأمم المتحدة للسكان. وبناء على هذا وذاك فإن كل سوري موجود داخل سورية يحصل على حصة سنوية وسطية: 1200 دولار تقريباً.
أي: إذا ما وزعنا هذا الناتج بالتساوي على الأفراد جميعها، فإن كلاً منهم يحصل في العام على 1200 دولار، وفي الشهر على 100 دولار، أي: حوالي 45 ألف ليرة سورية.
ولمعرفة مقدار ضآلة هذا الرقم يجب مقارنته بالوسطي العالمي لحصة الفرد من الدخل سنوياً عبر العالم، والبالغة في 2016: 10313 دولار سنوياً. أي: أن سورية تحتاج إلى مضاعفة إنتاجها ودخلها السنوي 8 مرات لكي يحصل الفرد السوري على دخلٍ مساوٍ للحصة العالمية الوسطية.
وهذه الـ 1200 دولار تضعنا في المرتبة 159 عالمياً من أصل 194 دولة.
وبالمقارنة مع عام 2011 فإن الدخل الوسطي الفردي في سورية كان يبلغ: 2700 دولار سنوياً للفرد، ما يعني أن حصة الفرد داخل سورية قد تراجعت مرتين وربع، رغم تراجع عدد السكان من أكثر من 22 مليون، إلى حوالي 18,3 مليون نسمة.
100 دولار للفرد شهرياً وفقر أكيد
ولكن المقارنة الأهم هي في القيمة الفعلية لهذا الدخل الوسطي الفردي، أي: ما تستطيع هذه القيمة السنوية، أن تؤمنه للسوري داخل بلاده. فالـ 1200 دولار إن وزعت على الأشهر فإنها تعني 100 دولار شهرياً، حوالي 45 ألف ليرة شهرياً.
فإذا ما كانت الأسرة من خمسة أشخاص تحصل في الحالة الافتراضية على 45 ألف ليرة شهرياً لكل فرد من أفرادها، فإن دخلها الشهري يبلغ: 225 ألف ليرة، وهو أقل من المبلغ المطلوب لتأمين الحاجات الخمس الأساسية لأسرة: الغذاء_ السكن_ اللباس_ الصحة_ التعليم. والتي تبلغ تكلفتها الشهرية في سورية بداية هذا العام: 233 ألف ليرة. (قاسيون 843). والأسرة التي لا تتمكن من تأمين هذه الضروريات هي أسرة فقيرة بالمطلق، أو بالحد الأدنى!
الناتج السوري السنوي، أي: ما ننتجه من قيم اقتصادية جديدة سنوياً خلال سنوات الأزمة قليل إلى حد بعيد... وهو إن وزع على كل السوريين الموجودين داخل سورية بالتساوي، فإنه عملياً لا يستطيع أن يؤمن للأسر الدخل الكافي لانتشالها من الفقر، أي: لا ستطيع أن يؤمن لها الحاجات الخمس الأساسية! فكيف إذا ما كان هذا الدخل القليل جداً يوزع بطريقة مجحفة جداً؟!
ربح كبير... يعني دخل صفري لآخرين!
الدخل الفردي الوسطي يعتبر مفهوماً مضللاً، فهو لا يعبر عن الواقع الحقيقي لدخل الأفراد... والسبب هو طريقة توزيع هذا الدخل. فعملياً الدخل الناتج، والقيم الجديدة المنتجة خلال عام توزع أولاً: على طرفين: أصحاب الأرباح وأصحاب الأجور. وفي سورية قبل الأزمة كان هذا التوزيع للدخل السوري القليل مجحفاً كما ذكرنا وكررنا، فكان أصحاب الأرباح يحصلون على ثلاثة أرباع الناتج، وهم قلة، بينما يحصل كل أصحاب الأجور على الربع فقط. وقد تفاقم هذا التوزيع الجائر خلال الأزمة إلى حدود غير مسبوقة، حيث إن التقديرات الأولية لحصة الأجور تشير إلى أنها قد لا تتجاوز 13% من الناتج في عام 2015، ما يعني أن أصحاب الأرباح يحصلون على 87% من الناتج.
قد يحصل صاحب ربح واحد، على دخل سنوي فردي يعادل ما يجب أن تحصل عليه مجموعة كبيرة من السوريين الآخرين. ففي ظل محدودية الناتج فإن كل ربح كبير، يأتي من ملكية صاحب الربح لمنشآت، أو عقارات، أو لقطاع كامل، أو لتجارة كاملة، فإنه يعني عملياً، أن الحصة التي انتزعها صاحب الربح الكبير هذا من الدخل السوري الإجمالي المحدود، قد انتزعت من سوريين آخرين لم يحصلوا على حصتهم من الافتراضية.
مثال من ربح الاتصالات
وسنورد مثالاً هنا لتوضيح المفارقة، من الدخل السنوي من ملكية قطاع الاتصالات، على سبيل المثال لا الحصر، حيث مستوى تمركز الثروة في هذا القطاع عالٍ جداً، والأرقام متاحة للمقارنة من إفصاحات شركات الاتصالات عن ربحها وعن حصص أعضاء مجلس الإدارة الخمس.
الأعضاء الأربعة من مجلس ادارة شركتي سيريتل وmtn حصلوا على ربح صافٍ مجموعه: 21,6 مليار ليرة في عام 2016: (14,1 مليار ليرة لاثنين من سيريتل، و7,5 مليار ليرة لاثنين من mtn). (قاسيون 811)
أي: أن الدخل السنوي لهؤلاء الأربعة، وهو جزء من الدخل السنوي السوري، قد بلغ: 48 مليون دولار. أي أنه يقابل: 40 ألف دخل وسطي سوري 1200 دولار.
وإذا فرضنا أن في سورية حالياً: 500 شخص فقط يحصلون على مستوى ربحٍ يقارب مستوى أربعة من مجلس إدارة قطاع الاتصالات، أي: 12 مليون دولار سنوياً لكل منهم، أي ما يعادل حصة: 5 مليون سوري!
ويعني أن 500 شخص من سوية الربح هذه من الدخل، يحصلون على ما يقارب 27% من الدخل السوري السنوي.
مثال من ربح تجارة الغذاء
إذا أخذنا مثالاً آخر من قطاع تجارة الغذاء فقط، حيث الربح المقدر من تجارة الغذاء يقارب مليار دولار، فإن هذا يعني أن هذا الدخل الكبير، تعادل حصة: 833! (قاسيون 832).
وإذا ما افترضنا أن من يمارسون تجارة المواد الغذائية في سورية يبلغون 100 شخص كافتراض، فإن الحصة الوسطية لكل واحد من هؤلاء تعني أن هناك قرابة 8300 سوري، وأكثر من 1600 أسرة، لم يحصلوا على حصتهم المفترضة!
الربح الفردي الكبير في سورية اليوم، يعني حتماً أن عشرات آلاف آخرين لا يحصلون على أي دخل، فالدخل محدود إلى حد بعيد، والناتج قليل، وكل انزياح به يعني انتزاعاً من حق الآخرين في الحصول على أي مورد مالي!
الفقر السوري الاستثنائي اليوم له سببان لا ينفصلان، أولهما: مجموع الظروف التي تؤدي إلى إنتاج ناتج قليل جداً لا يكفي لانتشال السوريين من الفقر، حتى لو وزع بالتساوي. وثانيهما: التوزيع الجائر بشكل استثنائي لهذا الدخل القليل، ليحصل مئات من أصحاب الربح الكبير على حصة ملايين من الآخرين!