شهادات الإيداع... التمويل بالديون مجدداً
تجميع السيولة في المصارف، وتعبئة الكتلة النقدية الموجودة في السوق السورية والتي قد تتراوح بين 5000-6300 مليار ليرة. يتحول إلى واحد من أهداف المصرف المركزي الرئيسة، والخطوة اللاحقة هي: إصدار شهادات الإيداع، مقابل فائدة... أي: عملياً عملية تمويل المالية العامة بالدين.
كان العجز ولا زال سِمة المالية العامة قبل سنوات الأزمة وخلالها، حيث كان يملأ بالإصدار النقدي، أي: أن الحكومة تستدين من المصرف المركزي دون فائدة. فإن الاتجاه نحو التمويل بالدين من أموال السوق، والجهات الخاصة، وليس عبر المصرف المركزي يعني: أن هذه العجوز ستصبح ديناً مستحق السداد وبفائدة. وهو ما قد يعني فتح بوابة لتراكم دين الحكومة على السوق، والتزاماتها المباشرة تجاه أصحاب المال.
فعلى ماذا يعوّل من يريدون أن يبدؤوا بعملية تحميل الحكومة ديوناً على قوى السوق، وبالليرة أو الدولار؟! وكيف يريدون أن يتم تسديد الفوائد التي تقارب اليوم 20%؟!
ومن أين يتوقعون زيادة ملموسة في الإيرادات العامة، لتستطيع أن تحقق معدلات عوائد أعلى من النسبة المذكورة؟
من أين ستسدد الديون وفوائدها؟!
يتوقع البعض بأن المالية العامة، وإيرادات الحكومة ستتحسن في المراحل القادمة، ومع بدايات عملية إعادة الإعمار، والوصول إلى اتفاق سياسي، وهو توقع محق... ولكن ينبغي ألا ننسى أبداً حجم الأعباء والنفقات المترتبة على جهاز الدولة، والمالية العامة في هذه المرحلة، والتي ستجعل الإيرادات غير كافية مهما توسعت، مما لن يسمح لنا بترف دفع فوائد سنوية مرتفعة كعوائد لأصحاب المال!
الأعباء ستكون استثنائية، ففي سورية 13 مليون نسمة خرجوا من بيوتهم وخسروا ممتلكاتهم، وينبغي أن يعوضوا، وقرابة 5 مليون طفل خارج المنظومة التعليمية ويحتاجون إلى إنفاق ليتمكنوا من العودة إلى الانخراط فيها، بالإضافة إلى أكثر من نسبة 80% من السوريين الفقراء من أصحاب الرواتب والأجور، وأغلبية أصحاب الدخل المحدود الذين لا يجدون ما يسد غذاءهم المتكامل، وغيرها وغيرها من الاستحقاقات الاقتصادية والاجتماعية، ذات الأبعاد السياسية والأمنية، والمرتبطة بالاستقرار إلى حد بعيد. إن حجم الأعباء قد يفرض في المرحلة القادمة نموذجاً اقتصادياً استثنائياً، تقلص فيه نسبة الربح الموزعة على المستثمرين إلى حدودٍ دنيا، وترتفع فيه حصة المالية العامة من الدخل الوطني إلى أقصى حد ممكن، لتستطيع أن تلبي المهمات الوطنية الكبرى الموضوعة أمامنا.
هل وراء التسرع مقصد!
إن اللجوء إلى تجميع الموارد من السوق، وإن كان عبر شهادات الإيداع أو سندات الخزينة أو غيرها، هو خطوة قد تكون ضرورية، ولكنها ينبغي أن تكون في مرحلة محددة. عندما يكون لجهاز الدولة مشروع وطني استثماري إنتاجي، يحتاج إلى تعبئة الموارد، وقادر على تحقيق إيرادات فعلية، وعوائد تمكن من تحقيق نسب نمو وعوائد مرتفعة، تمكن من سداد الدين، وتضمن ألّا يقع جهاز الدولة رهينة لديون قوى السوق الكبرى.
إن اللجوء إلى هذه الخطوة المالية قبل غيرها من الخطوات الاقتصادية، وقبل أن تظهر خطط جدية للاستثمار العام الإنتاجي الكبير، في مشاريع ذات عائدية عالية، قد يؤدي إلى الوصول إلى لحظة إعادة الإعمار، بتراكمات وديون كبيرة للمال العام لمصلحة قوى السوق والمال...
إن السرعة في اتخاذ إجراءات مالية من شأنها أن ترتب ديوناً يجب أن تدفعها الدولة للسوق، قد يقرأ على أنه عملية تجهيز بعض قوى السوق الكبرى للمرحلة القادمة. حيث ندخل إلى إعادة الإعمار بديون على المالية العامة، ويستطيع هؤلاء أن يجروا محاصصة اقتصادية وربما سياسية بقوة ديونهم على المال العام.
ينبغي التذكر، أن هؤلاء الممتلئين مالياً قبل الأزمة، والمنتفخين ثراءً خلالها، قد أثروا مما خسره أغلبية السوريين، أثروا من الفقر ومظاهر الكارثة كلها، والتسرع في وضع المالية العامة رهينة لديون من هؤلاء، والتسرع بعمليات تمويل الحكومة من أموال السوق مقابل فوائد، وهو تحويل هذه الأرباح المنهوبة من فقرنا، إلى دين جديد علينا في المرحلة القادمة!