مشروع موازنة 2007 ورق... وأرقام... وأحلام...

يستنتج المتتبع لموازنات الحكومة السورية عاماً بعد عام بأن الأرقام تتضخم وتكبر ورقياً في حين أن الواقع يتقلص وينكمش فعلياً، الأرقام تزيد، لكن نتائجها متواضعة جداً، ولا شيء يتغير نحو الأفضل، وتسقط في النهاية تصريحات الحكومة المدوية أمام أصغر أرقام الموازنة، تلك الأرقام الكبيرة التي تطل علينا في بداية العام توحي للوهلة الأولى بأن الفرج آت لا محالة، وأنها مفتاح حل المشاكل، ولكن ما إن تأتي نهاية العام حتى يشعر الناس بالعكس تماماً، فالأرقام الكبيرة فقدت معناها والأمور عادت كما كانت عليه دائماً، والوعود التي تقطعها الحكومة على نفسها تتبخر لأسباب مجهولة ويبقى لنا الأمل بأن عاماً آخر سوف يأتي بالجديد لكن دون جدوى.

عام 2007 وموازنة جديدة أعلن عنها رئيس الحكومة،من مجلس الوزراء، في الوقت الذي تكاد فيه الخطة الخمسية العاشرة أن تنهي سنتها الأولى ضمن ما أطلقوا عليه اسم اقتصاد السوق الاجتماعي، وإن كلاً من الخطة والموازنة والاقتصاد الجديد فيها كميات من الوعود المعسولة تكفي لعشر اقتصادات أخرى غير الاقتصاد السوري وفيها من التسويف ما يكفي مؤونة زمن طويل. ما يهمنا من أحداث عام 2007 القادم إلينا بعد شهر، هو موازنته التي سنلقي الضوء على جزء بسيط منها بعيدا عن لغة الاختصاص والتنظير الأكاديمي، هذه الموازنة التي تحمل الكثير من الأرقام والتي تحتاج إلى تحليل بسيط وسريع وإلى وقفة عندها لفهمها ولفهم أثرها على الناس والاقتصاد ولفهم العقلية التي تدير الموازنة وتدير شؤون الناس أيضا.
 
الزيادة بالتنقيط
بلغت اعتمادات موازنة عام 2007 حوالي 588 مليار ليرة سورية، مقابل 495 ملياراً في عام 2006 أي بنسبة زيادة حوالي 18.7 %  عن العام السابق، وتوزعت اعتماداتها إلى 330 ملياراً للاعتمادات الجارية ( مقابل 300 مليار عام 2006 بنسبة زيادة مقدارها 10% ) في حين بلغت اعتمادات الموازنة الاستثمارية 258 مليار ليرة ( مقابل 195 ملياراً عام 2006 بنسبة زيادة 32.3% ).
وقد شكلت اعتمادات الإنفاق الجاري في هذه الموازنة ما نسبته 56% من مجل اعتماداتها العامة، في حين شكلت اعتمادات الإنفاق الاستثماري الـ44% منها، وهذا على عكس موازنة عام 2006 التي خصصت 60.6% للاعتمادات الجارية و39.4% للاعتمادات الاستثمارية من مجموع اعتمادات الموازنة، وبالتالي فإن موازنة عام 2007 تزيد من نسبة الإنفاق الاستثماري، وتقلل من نسبة الإنفاق الجاري فيها.
إن هذه الزيادة في الإنفاق الجاري متواضعة جداً ولا تلبي حاجات المواطن السوري، وتحديداً الزيادة في نسبة الإنفاق الجاري التي تذهب أغلبها للرواتب والأجور، ذلك الجزء من الموازنة الذي يكون المواطن بأمس الحاجة إليه نتيجة تدهور وضعه المعيشي، وانخفاض قوته الشرائية، وزيادة متطلباته اليومية، وبمقارنة الإنفاق الجاري مع الإنفاق الاستثماري نجد أنه تم ضغط الزيادة في الإنفاق الجاري إلى ثلث الزيادة الإنفاق الاستثماري، فهل هي مقدمات لسياسة انكماشية جديدة للحكومة في عامها القادم؟ وماذا تريد الحكومة السورية من ضغطها النفقات الجارية؟
 
الإنفاق الاستثماري...أرقام خلبية
أما بالنسبة للإنفاق الاستثماري الذي توحي الحكومة بواسطته بأنها قد بدأت تستعيد دورها الاقتصادي من خلال زيادته  بنسبة 32% عن العام السابق فإن هذه الزيادة قد تكون زيادة خلبية بامتياز ولن تكون نتيجتها الحقيقية تنفيذ استثمارات فعلية، أو إجراء عمليات الاستبدال والتجديد اللازمة للقطاع العام، بل إنها ستبقى على الورق مثل كل السنوات السابقة، وذلك قياساً على نتائج السنوات السابقة كلها، والتي يكشف عنها قطع حسابات أي موازنة في نهاية العام، حيث تكرر عاماً بعد عام العبارات نفسها والحجج نفسها في قطع حسابات أي موازنة بالنسبة للإنفاق الاستثماري، إذ نجد أن نصف جهات القطاع العام الإداري والاقتصادي لا تنفذ خططها الاستثمارية، والنصف الآخر ينفذها بنسب منخفضة جداً، وفي كل مرة تعزي التقارير الصادرة عن الجهاز المركزي للرقابة المالية أسباب تدني نسب تنفيذ الإنفاق الاستثماري إلى العوامل ذاتها وهي "عدم الانتهاء من الدراسات الفنية، تأخر الشركات الدارسة لبعض المشاريع عن إتمام دراساتها، فشل المناقصات المعلن عنها لبعض المشاريع, فشل عملية شراء أو تخصيص الأراضي لمشاريع أخرى بسبب التأجيل لحين توفرها أو الاختلاف حول الأسعار، عدم الموافقة على تخصيص قطع أجنبي لتنفيذ بعض المشاريع من قبل الجهات المختصة، حاجة بعض العقود لمدة طويلة في مرحلة التصديق، عدم توفر كوادر عالية مؤهلة ومتخصصة لتوصيف العديد من المشاريع، يضاف إلى ذلك الدور السلبي الذي تبدى وبشمولية أثناء المناقشات من تقارير مفتشي الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش والتي ملخصها أن هذه التقارير تتصف بالكيدية والاستعجال بالرأي وعدم إتاحة الفرصة لتوضيح الحقيقة والطريقة المتبعة في الاستجواب لدى الهيئة بما في ذلك تخوف من المساءلة التي تنحو إلى الإدانة المسبقة".
أي أن الجهات الحكومة ما زالت مقصرة تماماً في قضية النفاق الاستثماري، ومهما كانت المخصصات الاستثمارية المقدمة لأي جهة حكومية كبيرة فإننا نفاجئ بعدم التنفيذ أو بضعف التنفيذ على الأقل لتعاد بعدها الأموال إلى موازنة العام القادم وهكذا دواليك عاماً بعد عام، أما لو كان هذا الرقم هو محاولة لتمرير فكرة إعادة اعتبار الحكومة لدورها الاقتصادي الاستثماري، فإن الإطار العام لسياسات الدولة لا يدل على ذلك أبداً، حيث تتجه سياساتها لإعطاء دور أكبر للقطاع الخاص أكثر من أي وقت مضى وفي القطاعات الاقتصادية كلها، كما أن فكرة الخصخصة ما زالت تدور في مخيلتها باستمرار، فالنهج الاقتصادي العام هو نهج اقتصاد سوق، وليس نهج تدخل حكومي على الإطلاق، وبالتالي ليس مبرراً لها أن تقدم هذه المبالغ على الورق لرفع وشحن المعنويات، في حين أن الواقع يسير في اتجاه آخر تماماً.
 
مجلس الشعب "لا لمحاسبة أحد"
ووبالطبع وعند مناقشة قانون قطع حسابات موازنة 2007 مستقبلا، سيقوم مجلس الشعب بدوره التقليدي في تمرير الحسابات كلها مثل أي قطع حسابات آخر، ففي كل مرة يمرر مجلس الشعب قانون قطع حسابات موازنة الدولة دون محاسبة أحد عن تلك الأسباب، ودون مساءلة فعلية لأي جهة حكومية مقصرة، حيث لم يحدث حتى الآن أن طلب مجلس الشعب أياً من الوزراء لاستجوابه عن تقصير مؤسساته، أو لاستيضاحه عن تكرار المشكلات نفسها، ولم يحدث أن طالب مجلس الشعب بضغط النفقات الاستثمارية للجهات التي لم تستطع لأكثر من مرة تنفيذ خطتها الاستثمارية كاملة وتحويلها للجهات التي تحتاجها فعليا، وإذا كان هناك بعض الجهات الإدارية التي لا تحتاج تنفيذ مشاريع استثمارية أو إنتاجية كبيرة وضخمة مثل المكتب المركزي للإحصاء ووزارة الخارجية مثلا، فإن هناك بعض الجهات التي هي بحاجة ماسة للاستثمار بها مثل المؤسسة العامة للصناعات الهندسية، والمؤسسة العامة لصناعة الاسمنت، ووزارة الكهرباء ووزارة النقل وغيرها من جهات القطاع العام الاقتصادي التي فاجأتنا أنها نفذت أقل من 50% من خطتها الاستثمارية لعام 2004،كما أظهر قطع حسابات ذلك العام. وتقع المفارقة أن مؤسسات مثل الاسمنت والهندسية اللتين عدمتا الوسائل لتنفيذ نصف خطتهما الاستثمارية ارتمتا في أحضان القطاع الخاص من أجل إعادة استثمار شركاتهما بحجة تقادم خطوطهما الإنتاجية وتهالكها، على الرغم من أن لديهما مخصصات إنفاق استثماري غير مصروفة على التجديد والتطوير.
 لا الوزراء يحاسبون مديري المؤسسات، ولا رئيس الوزراء يحاسب الوزراء، ولا مجلس الشعب يحاسب مجلس الوزراء، والنتيجة أن لا أحد يحاسب أحداً.أمام هذا الواقع نسأل: لماذا يتم تضخيم رقم الإنفاق الاستثماري في موازنة عام 2007؟ هل لمجرد تحقيق زيادة رقمية في قيمة الموازنة؟ وما هي المعايير التي استندت إليها الحكومة في تضخيم ذلك الرقم بشكل مفاجئ وكبير؟
 
معدلات التضخم تلتهم الأرقام.
إن الزيادة في موازنة عام 2007 هي ليست زيادة حقيقية أبداً، بل هي زيادة رقمية نظرية غير مخصوم منها معدل التضخم الاقتصادي الذي قد يعيدها كقوة شرائية إلى  أقل من ذلك بكثير، خاصة إذا ما ربطنا ذلك بوجود نية لدى الحكومة برفع الدعم عن الوقود والمحروقات والكهرباء التي تشكل مواد استهلاك أساسية لدى المواطنين الأمر الذي يؤدي إلى ارتفاع أسعارها وانخفاض القوة الشرائية للناس، هذا طبعا إن لم يحصل هناك أي ارتفاع جديد في أسعار العديد من السلع الأخرى كأسعار السكن وأسعار المواد الغذائية الأساسية التي عاصرنا العديد منها في هذا العام. ما نود قوله هو أن هذه  الزيادة تبدو متواضعة أمام المتطلبات الاقتصادية الكبيرة والمتزايدة للمواطنين وقد تبقى مجرد زيادة ورقية لا معنى لها على أرض الواقع أو زيادة مفرغة من فعاليتها أيضاً.
لقد التهم التضخم وارتفاع الأسعار موازنات عام 2005 و عام 2006 بامتياز، ذلك الارتفاع الذي وصل وفق مؤشر الرقم القياسي لأرقام المستهلك إلى  22%  في عام 2005، والمتوقع وصوله إلى أكثر من ذلك في عام 2006 وعام 2007 بسبب عدم وجود سياسة نقدية تحارب التضخم وتوقفه عند حدود معينة، وبالتالي فإن موازنة العام القادم معرضة تماماً لأن تكون موازنة سالبة بالقيم الحقيقية لليرة السورية، وسيكون المتضرر الوحيد من هذه العملية هو المواطن، الذي سيدفع ثمن تدهور قيمة عملته المستمر دون أن يعوضه أحد عن ذلك.فهذه هي موازنات الحكومة السورية المتتالية، أرقام ووعود على الورق، ومهمة المواطن التي لم تتغير حتى الآن وهي تناول بقايا الأحلام من تلك الأرقام.                                     

معلومات إضافية

العدد رقم:
284