اقتصاد السوق الاجتماعي على طاولة البحث.. 2 / 2

تعدّ توصيات المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث العربي الاشتراكي نقطة انعطاف في تاريخ سورية الاقتصادي، فقد أعلن المؤتمر الذي عقد عام 2005 تبني القيادة السياسية لمفهوم «اقتصاد السوق الاجتماعي» كهدف نهائي مرتجى من عملية الإصلاح الاقتصادي في سورية، ومنذ تبني هذا المفهوم وحتى الآن ما تزال الآراء متضاربةً حول ماهيته الحقيقية وطرق الوصول إلى تطبيقه على أرض الواقع. ولكن المستجدات التي طرأت على الاقتصاد العالمي وانعكاساتها على الاقتصاد السوري ساهمت في زيادة الأصوات التي تقارع تشدّق الحكومة بأن ما يمر به الاقتصاد والمجتمع من ضائقات ما هو إلاّ مرحلة مؤقتة علينا تحملها ريثما يتم الانتقال إلى «النظام الاقتصادي الجديد».

هذه النقاط وغيرها، أثيرت على طاولة مستديرة دعت إليها جمعية البحوث الاقتصادية العربية مساء الثلاثاء 14/7/2009 في مكتبة الأسد، وسبق أن نشرت «قاسيون» بعضاً مما جاء فيها العدد الماضي، وهاهي اليوم تتابع نشر ما تبقى من موجز مداخلات قدمها الباحثون على الطاولة..
 
د. عبد القادر نيال:

اقتصاد السوق الاجتماعي هو اقتصاد رأسمالي

 ومن جانبه قدم د. عبد القادر نيال مداخلةً تطرق فيها إلى أنه لا يرى سبباً للدفاع عن فكرة تبني المؤتمر القطري العاشر لمفهوم اقتصاد السوق الاجتماعي، لأن مجمل الظروف الداخلية والإقليمية والدولية تجعل من اقتصاد السوق الاجتماعي الخيار الأفضل لسورية، لكن هذا الأمر شيء وخلط الأمور ببعضها شيء آخر، فالقول إن اقتصاد السوق الاجتماعي هو اقتصاد اشتراكي فيه شيء من الالتباس لأن اقتصاد السوق الاجتماعي هو اقتصاد رأسمالي بدلالة الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، والاعتماد على المبادرة الفردية في التنمية والاعتماد على قوى وآليات السوق في تحديد أسعار السلع والخدمات وبالتالي في إعادة تخصيص الموارد للاستعمالات المختلفة. وتابع د. نيال: لا يضير اعتبار اقتصاد السوق الاجتماعي اقتصاداً رأسمالياً في جوهره فهذه حقيقة، والجانب الاجتماعي فيه هو تطور طرأ على النظام الرأسمالي نفسه، إذ بدأ هذا النظام يعطي أهمية أكبر للأبعاد الاجتماعية، وبالتالي فإن البعد الاجتماعي في اقتصاد السوق الاجتماعي يمثل مكوناً أو جزءاً أساسياً من هذا النظام الاقتصادي، ولكن المفارقة الأساسية هي أنه عند نشأة اقتصاد السوق الاجتماعي في دول أوروبا الغربية كان ذلك في أعقاب تحقيق معدلات نمو مرتفعة في النصف الثاني من الخمسينيات والستينيات نتيجة تنفيذ مشروع مارشال لإعادة إعمار ما خربته الحرب العالمية الثانية، فمعدلات النمو المرتفعة مع الأرباح الطائلة التي تم تحقيقها في ذلك الوقت مكنت دول أوروبا الغربية من تحمل تكاليف البعد الاجتماعي لاقتصاد السوق الاجتماعي، والمشكلة في سورية هي عدم توفر أو تحقق النمو بمعدلات مرتفعة بحيث يوفر فوائض هائلة تستطيع أن تؤمن تكاليف البعد الاجتماعي في اقتصاد السوق.
 
د. نبيل مرزوق:

لا بدّ من تغيير ميزان القوى الحالي
 
د. نبيل مرزوق بدأ كلامه بتوضيح عدم شكه شخصياً بنوايا أو رغبات أحد فيما يتعلق بموضوع اقتصاد السوق الاجتماعي، فالمسألة حسب د. مرزوق لا تتعلق برغبة حزب البعث العربي الاشتراكي أو رغبة القيادة القطرية، بقدر ما يجب فهمها على أنها خيار اقتصادي - اجتماعي اختاره النظام السياسي في البلاد، ولكن أي خيار للنظام الاقتصادي هو محصلة قوى في المجتمع، وهذا يدفع إلى القول إن التطورات التي تمت خلال السنوات السابقة تدل على تغير في قوى المجتمع السوري، فحتى السبعينيات من القرن الماضي كانت القاعدة السياسية للنظام في سورية هي العمال والفلاحين وهي الفئات المسماة فقيرة وكادحة..الخ، ولكن مع تطور النظام وبدء التحول في بنيته مع وجود مصالح ليس مع القاعدة الاجتماعية القديمة نفسها، وإنما مع قواعد اجتماعية جديدة، بدأت بعض الفئات بإيجاد تحالفاتها مع التجار والصناعيين والفئات المتمولة، وهذا التحول بدأت طلائعه في الثمانينيات. وبعد عرضه لتداعيات التغير في قوى المجتمع المؤثرة خلال عقدين من الزمن، تساءل د. مرزوق عن حوامل نهج اقتصاد السوق الاجتماعي الذي أطلقه المؤتمر القطري العاشر: هل كان التوازن أو صراع القوى في محصلته لمصلحة القوى الاجتماعية الواسعة، أم لمصلحة رأس المال؟ هذه هي النقطة الأساسية- حسب د. مرزوق، الذي رأى أنه قبل البحث في اقتصاد السوق الاجتماعي بين النظرية والتطبيق يجب البحث في ميزان القوى الموجود على أرض الواقع، فهناك حكومة تقوم بتسيير برنامج، وإذا كانت الحكومة اليوم تأخذ تعليماتها عملياً من غرفة التجارة والصناعة والمؤسسات الدولية فهل قامت باستفتاء نقابات العمال عن رأيها بالموضوع؟ هل قامت بأخذ رأي المجتمع الأهلي السوري؟ أم أنهم استندوا إلى الرأي العام؟.. وأضاف د. مرزوق إن الفكرة الأساسية هي أنه يتوجب علينا أولاً أن نناقش ما يسميه البعض نظاماً اقتصادياً اجتماعياً من حيث أنه لا يمكن قيامه من الفراغ، وإنما يقوم على حوامل اجتماعية سياسية، وإذا كان المطلوب هو اقتصاد سوق اجتماعي فلا مناص من إجراء عملية إصلاح سياسية تمهد له الطريق عبر تغيير ميزان القوى الحالي.
 
د. مدين الضابط:

ما تم من إصلاحات يخدم عملية إطلاق العنان لقوى السوق دون أية رقابة
 
بدوره د. مدين الضابط، رأى أنه ليس المهم كيفية صياغة موضوع اقتصاد السوق الاجتماعي على عجل أو غير ذلك، وإنما المهم هو أنه عندما تم إطلاق ما يسمى باقتصاد السوق الاجتماعي لم تكن هناك رؤية واضحة وعميقة لما يعنيه هذا المصطلح، وباعتبار عدم وجود هذه الرؤية فإنه لم تكن متاحاً وضع برنامج مستقبلي متكامل يقوم على تطبيق هذا الشعار، ولم يكن تطبيق اقتصاد السوق الاجتماعي الذي أطلق عام 2005 يستند إلى برنامج واضح من حيث الزمن والأدوات والسياسات والأولويات، ولم تحسب نتائج تطبيقه على أي قطاع من القطاعات كافة، ولم تحسب على أي من القطاعات الاقتصادية (صناعة- زراعة..الخ)، والدليل على ذلك أن الفريق الحكومي أطلق عنان الإصلاح الاقتصادي من زاوية المؤسسات المالية فقط لا غير، فقد اعتبر هذا الفريق أن دوافع الإصلاح الاقتصادي في سورية تنحصر في كلمتين: المؤسسات المالية.. وتابع: إن ما حدث في سورية لم يتعدّ كونه إصلاحاً على مستوى المؤسسات المالية، وهو قطاع خدمي بامتياز ويخدم عملية إطلاق العنان لقوى السوق دون أية رقابة اجتماعية، وأعرب د. الضابط عن اعتقاده بأن هناك اتفاقاً ما مع البرامج الجاهزة لصندوق النقد والبنك الدوليين.
وحول تعريف اقتصاد السوق الاجتماعي ما إذا كان نظاماً اقتصادياً أم غير ذلك، قال د. الضابط: يمكن القول إن اقتصاد السوق الاجتماعي من الوجهة الفلسفية نظام بامتياز، إذ له مقدمات ومدخلات وأسباب داعية، كما له أهداف ومخرجات معروفة وآليات للتطبيق دون شك. وختم د. الضابط كلامه متسائلاً عن إمكانية الإعداد لنقاش يشارك فيه جميع الباحثين الاقتصاديين السوريين من مختلف المدارس ليتم الاتفاق على تعريف دقيق لاقتصاد السوق الاجتماعي بحيث يمكن وضع سماته وتوصيف أبعاده، وبحيث يجيب الباحثون عما إذا كانت السنوات الأربع من عمر إعلان السير في اقتصاد السوق الاجتماعي تدخل في إطار هذا العنوان؟ وأعرب عن اعتقاده بعدم صحة هذا الأمر موضحاً بالقول: إن حصيلة أربع سنوات هي عجز 33% في الموازنة العامة وارتفاع في معدلات البطالة وانهيار الصناعات التحويلية وقطاعات الاقتصاد الحقيقي.. لذلك، أمام هذه النتائج يجب إعادة التقييم، وهذا ما أتمنى أن يتم بسرعة.
 
د. عماد الدين صبيح:
هناك غموض مفاهيمي حول اقتصاد السوق الاجتماعي لدى مختلف القوى
 
أوضح د. عماد الدين صبيح في مداخلته أن الاتحاد العام لنقابات العمال رفع كتاباً إلى المؤتمر القطري العاشر، قال فيه إنه يوافق على اقتصاد السوق ولكن يجب أن يتم أخذ البعد الاجتماعي بعين الاعتبار، وشدد د. صبيح على أن كلمة (الاجتماعي) لم تكن موضوعةً كمفهوم في ما سعى إليه المؤتمر عبر اعتناقه اقتصاد السوق، وتابع: أجزم أنه تم تبني مفهوم (الاجتماعي) في هذا النهج ضمن إطاره العام السياسي والاقتصادي والاجتماعي باعتباره مفهوماً توفيقياً بين القوى التي تصارعت حول تحديد النهج الاجتماعي الاقتصادي السياسي في سورية للمرحلة القادمة. وأشار د. صبيح أن الغموض المفاهيمي بدأ من هذه النقطة خاصةً حين بدأت القوى المختلفة بمحاولات سحب البساط لمصلحتها من رجال الأعمال أو البرجوازيين وسعت عبر ذلك إلى تفسير الجانب الاجتماعي من اقتصاد السوق بما يخدم مصالحها، وأضاف أن اتحادات العمال والفلاحين وغيرهما اعتبرت هذا النهج الاقتصادي نهجاً اجتماعياً يحافظ على مصالحها، وهو ليس افتراقاً عن النظام الاشتراكي السابق الذي تم ترسيخه في الثامن من آذار، وتم الاستمرار فيه بصيغة معدلة عبر الحركة التصحيحية، وإنما هو مجرد تطوير له، بينما اعتبرت القوى الأخرى أن هذا النهج لمصلحتها على اعتباره اقتصاد سوق. ورأى د. صبيح أن السبب في هذا الغموض المفاهيمي في سورية هو أن اختيار (الاجتماعي) كصفة لهذا النهج كان أمراً توافقياً بين التيارات التي كانت موجودة في ردهات المؤتمر القطري آنذاك، وبين التيارات المؤثرة خارج المؤتمر.
 
حوار مشترك:

ما هو تعريف السوق؟
 ولإبداء رأيه في اقتصاد السوق الاجتماعي طرح د. غسان ابراهيم على الحضور مسألةً فلسفيةً لم يسبق أن تطرق إليها باحثون اقتصاديون بالتحليل، وجاءت مداخلته التي أثارت نقاشاً نظرياً طويلاً عبر السؤال: من الذي طرح مصطلح أو عبارة اقتصاد السوق في أول الأمر، وهل هناك في علم الاقتصاد ما يسمى اقتصاد السوق؟ وأوضح د. ابراهيم أنه لم يجرؤ أحد من الاقتصاديين العالميين سواء كان ماركس أو آدم سميث أو ريكاردو وهم أساطين الفكر الاقتصادي لم يجرؤوا على التحدث عن اقتصاد السوق لأن السوق فوق الأنظمة، ومفهوم السوق لا تاريخي، وليس خاصاً بالرأسمالية، وموجود في كل المراحل الاجتماعية التي عرفتها البشرية، والسوق ملك للجميع، ولا يمكن أن يتم نسب أي مجتمع إلى شيء عام. ولذلك يرى د. ابراهيم أن هذا المصطلح هو مصطلح سياسي أو إعلامي لأنه لا وجود في علم الاقتصاد كله لهذا المفهوم، وتناوب الباحثون في توضيح حقيقة هذا المصطلح الذي رآه د. جميل مصطلحاً تضليلياً، لأن مصطلح اقتصاد السوق استخدم عملياً بشكل واسع جداً عشية انهيارات أوروبا الشرقية لأن الأنظمة هناك كانت تريد العودة إلى الرأسمالية، ولم يكن من الممكن حينها الدعوة المباشرة إلى الرأسمالية لكونه تعبيراً مشيناً، وكان المقصود عملياً هو تضليل الناس وعدم توضيح ما يجري في اقتصادات أوروبا. د. حبيب رأى أن اقتصاد السوق يعني تحكيم العرض والطلب، فعارضه د. حيان سلمان وأوضح أن اقتصاد السوق هو حالة وهمية افتراضية ويمكن تسمية الحالة بأنها حكم آليات السوق لا أكثر. وفي النهاية صب النقاش في ساقية أن السوق وجدت مع ظهور الإنتاج البضاعي (أي بوجود البضاعة)، فحين ساد الإنتاج البضاعي سادت آليات السوق التي تنظم حركة البضاعة، وقد ساد الإنتاج البضاعي ضمن النظام الرأسمالي وفعل فعلاً كبيراً في تحقيق النمو الاقتصادي في العالم، ولكن ضمن مرحلته التاريخية فقط.

معلومات إضافية

العدد رقم:
413