هجوم على (مضخة المال الأمريكي)!
عندما انتهت الحرب العالمية الثانية بالانتصار الأمريكي، انطلق الدولار ليعلن النظام النقدي العالمي الجديد، وأصبح البنك الفيدرالي الأمريكي، وهو أول البنوك المركزية الخاصة، ونموذج (استقلالية البنوك المركزية)، أصبح مصدر طباعة الدولار العالمي، تلك الطباعة التي أطلق لها العنان بعد السبعينيات، عندما أعلن نيكسون فك ارتباط الدولار بالذهب.
ليست مصادفة أن تكون بداية السبعينيات هي نقطة انعطاف في النظام النقدي العالمي، حيث أن بداية هذا العقد، كانت نهاية (المرحلة الذهبية) مرحلة النمو السريع في أوروبا تحديداً عقب الحرب، هذا النمو الذي لا ينفصل في أوروبا عنه في الولايات المتحدة، بعد أن تشابكت رؤوس الأموال الأوروبية والأمريكية في خطة مارشال لإعمار أوروبا.
قاسيون
لقد كان الإعلان عن اللجوء إلى هيمنة المال الرخيص، الدولار المطبوع بكلفة لا تتجاوز بضعة سنتات أمريكية، والمصدّر للعالم كورقة نقدية تقابل بضائع بـ 100 دولار! حيث كان الدولار المدعوم بالهيمنة الأمريكية الاقتصادية والعسكرية، وبنجاحات مرحلة ما بعد الحرب، وبتوسع الطلب والتجارة العالميتين، وبزيادة معدلات الربح من أدوات الاستعمار الحديث في دول العالم الثالث، وبفعالية المؤسسات الدولية الاقتصادية الأمريكية: صندوق النقد الدولي- البنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، الدولار ومن خلفه هؤلاء كلهم، هو الأداة الأجدى، لإخفاء معدل الربح المتراجع في الصناعة أوروبياً، ولاحقاً أمريكياً.
إن هذا المنعطف في السبعينيات، هو القاعدة للتوسع الكبير اللاحق، للقطاع المالي في الثمانينيات، أو ما يسمى اليوم بالأَمْوَلة، لتأتي لاحقاً أزمة عام 2008، وتنفجر الفقاعة الأكبر، مفجرة سلسلة أزمات مالية، انتقلت حكماً إلى تعبيراتها الاقتصادية العميقة، في الركود الاقتصادي العالمي اليوم.
من البنوك للأَمْوَلة للفيدرالي..
التفسيرات ومحاولة تركيز اللوم على إجراءات محددة أو سياسات محددة، كانت السلوك المتوقع من الفكر الاقتصادي العالمي، المضطر للتعامل مع الأزمة العميقة للرأسمالية. حيث بدأت في عام 2008، بإلقاء اللائمة على (جشع) البنوك وشركات الاستثمار المالي، وعلى القرارات الخاطئة لمدرائها التنفيذيين! ومع تعمق الأزمة، انتقل اللوم ليصب على عملية الأَمْوَلة، مع نسبها لمرحلة الثمانينيات، وبدأ التحليل يحاول قسراً أن يفصل هذه العملية عن نقطة انطلاقها في سياسات طباعة الدولار الرخيص، وعن جذرها العميق الكامن، في أن الاتجاه نحو القطاع المالي، هو ردة الفعل الوحيدة لرأس المال العالمي، ليضمن استمرار معدلات الربح السريعة.
حيث تحول هذا القطاع إلى الآلية التي تضمن امتصاص الربح من كل مواضع الإنتاج والنمو في العالم، التي كانت تنخرط واحدة تلو الأخرى في دوامة البورصة العالمية، والمؤسسات المالية الكبرى.
اليوم، تخطو الأزمة مرحلة أعمق، وينتقل اللوم ليصب على السياسة النقدية العالمية، وعلى النظام النقدي العالمي، بل وبالتحديد على البنك الفيدرالي الأمريكي، مركز طباعة الدولار العالمي. حيث شهد العام الحالي ظهور اتجاه اقتصادي واضح في الولايات المتحدة، وفي أوروبا، ينادي (بإيقاف سياسة المال الرخيص). والملفت، أن هذا الاتجاه يضم أقطاباً في رأس المال العالمي، مثل روتشيلد، الذي انتقد بحدة سياسة التيسير الكمي الأمريكية- الأوروبية- اليابانية، واعتبر أنها تغرق الاقتصاد العالمي بالدين الذي قد لا يُسدد، مطلقاً سلسلة كبرى من الأزمات.. ويدعو هؤلاء إلى إنهاء حقبة تسلم السياسة النقدية زمام الأمور، والعودة إلى سياسة مالية أكثر فعالية، ليذكروا من ضمنها: زيادة الإنفاق الحكومي على البنى التحتية، وتغييرات في السياسة الضريبية وغيرها.
إشارات أخرى يمكن أن يكون لها دلالة في هذا السياق: ترامب وهجوم حملته على البنك الفيدرالي الأمريكي، وحديث مستشاره بعد الفوز لفايننشال تايمز عن الانعطاف نحو سياسة مالية، وإيقاف سياسة الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي: (الذي أنهك الاقتصاد بالمال السهل)..
هجوم على (أمريكا العالمية)!
من الواضح أن حقبة استخدام (المال الرخيص) عبر العالم، المتدفق من منابع البنوك المركزية للدول المتقدمة تشارف على الانتهاء، فالاحتياطي الأمريكي ذاته يتحدث عن رفع أسعار الفائدة..
ولكن ماذا يعني الهجوم على حقبة الاعتماد على (طباعة المال واشتقاقه) الممتدة منذ السبعينيات؟! إنه يعني مهاجمة الركن الأساسي في مرحلة الهيمنة الأمريكية على الاقتصاد العالمي، ويشير ربما إلى عدم استعداد قوى رأس المال العالمي أو بعضها، لانفجار أزمة الدين الجديدة، وعدم القدرة على التحكم بها والخوف من نتائجها. لذلك قد يكون السعي للتخلص من (مضخة المال العالمي الأمريكية)، أهون من استمرارها وتسريع اندلاع الأزمة، وحتى ولو كانت هذه المضخة هي آخر أدوات مواجهة انخفاض معدل الربح العالمي..