الثلاثاء الاقتصادي يبحث المعاناة الاجتماعية في المنطقة الشرقية شبه إجماع على تبرئة الجفاف.. وتجريم السياسات الاقتصادية
اختتمت الندوة الأخيرة لجمعية العلوم الاقتصادية السورية باقةً من المحاضرات حول المنطقة الشرقية، كانت قد بدأتها منذ أسابيع بالعمران، مروراً بالزراعة والمياه، وصولاً إلى «الآثار الاجتماعية لأزمة الجفاف في المنطقة الشرقية». وتحدث في ندوة الثلاثاء الماضي كل من د. رياض الشايب ود. داود حيدو والمهندس عصام زنون..
بدأت الندوة بمحاضرة قدمها د. رياض الشايب، وبيّن فيها أنه على الرغم من عدم إمكانية الحديث عن الأمن الغذائي المستدام في سورية بمعزل عن المنطقة الشرقية، إلاّ أنها تعاني من الفقر وانخفاض الرعاية الصحية، وانخفاض في مؤشرات القراءة والكتابة، وتدن في مستويات التعليم، وقلة الاستثمارات في الصناعات الغذائية، إلى جانب الضعف في تصنيع المحاصيل الزراعية الاستراتيجية، لذلك رأى د. الشايب أن التنمية المتكاملة لهذه المنطقة تتميز ببعد استراتيجي على جميع المستويات الاقتصادية والسياسية والأمنية والاجتماعية.
وبين د. الشايب في حديثه أن الجفاف الذي تسبب بانخفاض إنتاج القمح في المناطق البعلية من المنطقة الشرقية عام 2008 بنحو 82%، لم يكن العنصر السلبي الوحيد، إذ أنه ترافق مع بروز نهج اقتصاد السوق الاجتماعي الذي فسح المجال أمام التسويق الحر لبعض المحاصيل الاستراتيجية كالشعير والذرة الصفراء وحتى القمح، ثم جاء رفع الدعم عن المحروقات في بداية شهر أيار من 2008 ليضاعف سعر ليتر المازوت ثلاث مرات ونصف في وقت حرج لمحصولي القمح والقطن المرويين، أي في الوقت الذي أصبح القمح فيه بحاجة إلى سقاية أخيرة بعد الارتفاع الكبير في درجات الحرارة خلال نيسان لتعويض فقدان الرطوبة الحقلية اللازمة لاستمرار نموه وتحسين نوعيته وإنتاجيته، وكذلك القطن الذي كان في بداية طور الإنبات والنمو كان بحاجة إلى سقاية.
وأثّر رفع سعر المحروقات حسبما رأى د. الشايب على الزراعة المروية بشكل حاد وأدى إلى توقف بعض الفلاحين عن متابعة خدمة هذين المحصولين فنتج عن ذلك انخفاض كبير في إنتاج وإنتاجية القمح، علماً بأن الزراعة المروية تنتج من 60 إلى 70% من القمح في السنوات الجافة، وإضافة لهذه العوامل الثلاثة (الجفاف، وتحرير السوق، ورفع الدعم) جاء تعديل المساحة المزروعة بمحصول القمح بعد إعفاء مجلس الوزراء للفلاحين المخالفين للخطة الزراعية في محافظة الحسكة ليعدل في كمية الإنتاج والإنتاجية مقارنةً مع السنوات السابقة، ونتيجة لهذا الوضع تأثر النشاط الاقتصادي والتجاري سلباً في المنطقة لكونها تعتمد في صناعتها وتجارتها على المواشي والمنتجات الزراعية، لدرجة أن بعض العاملين في هذين المجالين لم يتمكنوا من تسديد الأقساط المترتبة عليهم للمصرف الزراعي التعاوني أو مصرف التسليف الشعبي.
وتابع د. الشايب موضحاً أن المنطقة الشرقية عموماً، ومحافظة الحسكة على وجه الخصوص، تمر بأزمة حقيقية تتمثل بعزوف الفلاحين عن النشاط الزراعي، إلى جانب البطالة وهجرة العديد من الأسر بحثاً عن فرص العمل خارج المنطقة التي تفتقر إلى مصدر مائي دائم للزراعة والشرب كنتيجة للاستخدام غير المرشد للموارد المائية وخاصةً الجوفية منها، وكنتيجة لغياب التخطيط المتكامل لهذه الموارد وعدم الاعتماد على معايير إدارة الطلب التي تعني الموازنة بين المتاح من الموارد والطلب عليها للأغراض المختلفة (شرب، زراعة، صناعة، سياحة). وأوضح د. الشايب أنه وعلى الرغم من القوانين والقرارات والتدابير التي اتخذتها الحكومة للتعامل مع مشكلات المنطقة الشرقية المتفاقمة فقد فعل الجفاف فعلته وزادت سياسة تحرير الأسعار ورفع سعر المحروقات من عمق الأزمة.
بعد ذلك عقّب د. داود حيدو موضحاً أن الجفاف الذي يعدّ من الظاهرات الطبيعية السلبية ليس جديداً على سورية، ولكن شدة أضراره تحددها عوامل أخرى كاستعداد الحكومة واحتياطاتها لدرء نتائجه، ودعا حيدو إلى مزيد من الحرص والتضامن مع الفلاحين اليوم لمنع الليبرالية الجديدة من النيل من مكاسب هذا القطاع ودفعه إلى الخلف مع تفضيل قطاع الخدمات والتجارة وغيرها من القطاعات غير المنتجة. وأشار إلى ما اتخذته الحكومة من إجراءات وتدابير ذات صلة بالزراعة خلال السنتين الأخيرتين مبيناً أن بعضها حمل تأثيرات سلبية مثل رفع أسعار المحروقات وغيره من مستلزمات الإنتاج الزراعي في أوقات غير مناسبة، ما أدى إلى زيادة وضع الزراعة سوءاً على سوء، ثم تلا ذلك اتخاذ الحكومة
وخلص د. حيدو إلى أن المنطقة الشمالية الشرقية هي المنطقة التي تتوفر فيها أكثر الاحتياطات الإنمائية في الزراعة والصناعة والخدمات، وهي احتياطات تنتظر الاستثمار والوضع في الخدمة، وهذا يتطلب تفادي النواقص في مجال التعليم والتأهيل المهني ومكافحة الأمية والرعاية الصحية ومكافحة الأوبئة، وأشار المحاضر إلى أن المنطقة الشمالية الشرقية لا تعاني اليوم مشكلةً غذائيةً وحسب، وإنما يضاف إليها أيضاً مشكلات صحية عديدة ليس آخرها انتشار مرض السل في المنطقة.
وبدوره عرض م. عصام زنون لمنظمة إيفاد التابعة للأمم المتحدة ودورها التنموي في المنطقة الشمالية الشرقية، ولكن عرضه قوبل باستهجان من الحضور لكونه أقرب إلى الدعاوى الإعلانية التي تقدمها المنظمات الدولية للجمهور بغية إقناعه بأهميتها، وأشار زنون خلال حديثه إلى دور المنظمة في تمويل بعض المشروعات في المنطقة، مبيناً أنها قيد التنفيذ وتحتاج إلى المزيد من الوقت
وتلا المحاضرة عدد من المداخلات، وكان أول المتداخلين د. منير الحمش الذي شدد على أن الآثار الاجتماعية التي تعانيها المنطقة الشرقية حالياً ليست وليدة الجفاف وإنما هي وليدة السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي يقودها الفريق الاقتصادي، لأن موضوع الجفاف ليس جديداً على سورية، ولكن الجفاف الحالي مترافقاً مع السياسات الاقتصادية الليبرالية دفع بالسكان إلى الهجرة عن أراضيهم. وبين د. الحمش أن هذه الهجرة خطيرة جداً وتصل حد الكارثة الاجتماعية، ولذلك رأى أن الحديث يجب أن يكون عن الآثار الاجتماعية للسياسات الاقتصادية التي انتهجها الفريق الاقتصادي في الآونة الأخيرة (يشار إلى أن موضوع الندوة القادمة هو الآثار الاجتماعية للسياسات الاقتصادية في سورية)، ورأى د. الحمش أن المشكلة بأن الفريق الاقتصادي لا يرى في سياساته خطأً يجب الرجوع عنه، وخلص إلى أن المشكلات التي تعانيها المنطقة اليوم هي بسبب السياسات الاقتصادية وليست بسبب الجفاف، مبيناً أن الفريق الاقتصادي دائماً يبحث عن شماعات لتعليق فشل سياساته عليها، وهو اليوم يلوم الجفاف على المشكلات الحاصلة في المنطقة.
وتقدم د. حيان سلمان بالمداخلة الثانية وبيّن فيها أن المنطقة التي تضم 17% من سكان سورية لا تتعدى نسبة الاستثمارات فيها 3%، وهذا يعني أن الناس سيعانون من بطالة قادمة وآثار اجتماعية أقرب إلى الكوارث، وأشار د. سلمان إلى أنه في المقابل هناك ثلاث محافظات يشكل سكانها 39% من السوريين تستوعب 84.8% من الاستثمارات السورية، وشدد د. سلمان على أهمية التراكم الأولي في الزراعة بتحقيق الانطلاق التنموي الصناعي لأي اقتصاد، ولذلك فإن الزراعة يجب ألاّ تكون الغاية وإنما الوسيلة لتعظيم القيم المضافة في الاقتصاد السوري عبر جعل مخرجات الزراعة هي مدخلات الصناعة ومن ثم تتضخم القيمة المضافة.
وبدوره أوضح د. نبيل مرزوق في مداخلته أن المشكلة ليست متعلقة بالجفاف، فالمشكلة الأساسية حسب اعتقاده هي في التنمية وجهود التنمية المبذولة في المنطقة والتي كانت ضعيفةً خلال السنوات الماضية، وأشار د. مرزوق إلى أن المنطقة كانت تعاني منذ 2001 من مشكلات كثيرة ولكن الجهات المعنية لم تكن تريد إعلان المنطقة الشمالية الشرقية منطقةً منكوبةً علماً أنها كانت منطقةً منكوبةً فعلاً في ذلك الوقت حيث خلت آلاف القرى من سكانها على حوض الخابور الذي جف حينها، والمشكلة الأساسية حسب د. مرزوق هي بوعي الحكومة إلى المخاطر المحدقة بالمجتمع والاقتصاد الوطني، ومع الأسف ترك الأمر للسوق الذي لا يمكن لها أن تقود عملية تنمية أو تصحيح ذاتي في عملية التنمية، إذ لابد من دور للدولة في هذا الموضوع. وخلص د. مرزوق إلى أن السياسة الاقتصادية المتبعة والنهج الليبرالي المتبع حالياً في سورية هو المشكلة الأساسية اليوم، وهو ما يجب إيقافه اليوم إلى جانب وقف انسحاب الدولة من دورها الاقتصادي والاجتماعي.