مشروع الموازنة العامة 2010 يرسّخ تراجع دور الدولة الاقتصادي

 
أعدت الحكومة السورية مشروع موازنتها العامة للعام 2010، وقامت فيما بعد بتحويله إلى مجلس الشعب لمناقشته وإقراره..

يبلغ إجمالي الإنفاق العام المفترض للسنة القادمة الموشكة على البدء حوالي 754 مليار ليرة سورية، وذلك بنسبة زيادة عامة 10% على موازنة عام 2009، وبنسبة 19% في الاعتمادات الاستثمارية منها، وبلغت نسبة الاعتمادات الاستثمارية إلى إجمالي الموازنة 4ر43%. ولكن مشروع الموازنة اعترف بتأثر سورية بالأزمة الاقتصادية العالمية، رغم التخبط الذي ساد الفترة السابقة في تصريحات المسؤولين السوريين، والتي تراوحت بين عدم التأثير والتأثر الكبير، لكن المشكلة أن تأثير الأزمة كان، حسب تقرير مشروع الموازنة العامة، على قطاعات الإنتاج الحقيقي وخصوصا الصناعة، في حين أن قطاعات المصارف والتأمين والسوق المالية والسياحة لم تتأثر بها.
إن دور الدولة الاقتصادي يقاس أساساً من خلال المقارنة بين إجمالي الناتج المحلي والموازنة العامة، حيث يعبِّر ارتفاع نسبة الأولى مقارنة بالثانية عن زيادة دور الدولة الاقتصادي، فإذا ما عرفنا أن الناتج المحلي الإجمالي المقدر للعام 2010 هو حوالي 2494 مليار ليرة، بينما تبلغ الموازنة العامة لهذا العام  754 مليار، تكون النسبة حوالي 30%، وهي نسبة منخفضة بالنسبة لدولة نامية تسعى لتطوير إمكاناتها وقدراتها الاقتصادية، أما إذا ما تم مقارنة نسبة الناتج المحلي إلى الموازنة مع الدول الأخرى، نجد أن هذه النسبة ترتفع في هولندا إلى 60%، و48% في ليبيا، 35% في اليابان، 37% في الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا يعتبر فرقاً شاسعاً وكبيراً يقدر بمئات المليارات. وهذا التراجع لا يقتصر على النسب فقط، بل إن المواطن العادي بدأ يتلمس تراجع دور الدولة فعلياً في كافة مجالات الحياة الاقتصادية، بدءاً بالتراجع عن دعم شركات القطاع العام، مروراً بخصخصة الخدمات التعليمية من المرحلة الابتدائية إلى الجامعية، وصولاً إلى رفع الدعم التدريجي عن المواطن السوري، وصولاً لإلغائه بشكل نهائي.
أما إذا أردنا تحديد حصة القطاعات الأساسية من الموازنة العامة، فإنه يمكن القول إن حصة قطاع الصحة من الموازنة العامة للعام 2010 قد تدنت كثيراً، حيث إن نسبتها لا تتجاوز0,35% فقط، بينما تقدر حصة قطاع التعليم 2,5% من إجمالي الموازنة العامة، وهذه تعد أرقاما مخيفة وكارثية إذا ما تم مقارنتها بأرقام الدول الأخرى في المجال ذاته، فإن حصة قطاع التعليم في اسبانيا، حسب إحصائية معهد الدراسات الدولية والإستراتيجية في فرنسا لعام 2008،  تقدر بـ 4,5% من إجمالي الموازنة العامة، وفي تركيا 3,7%، إيران 4,8،  وماليزيا 8%، تونس 8,1%، أما حصة قطاع الصحة من ميزانيات هذه الدول، وفق إحصائية معهد الدراسات الدولية يبلغ 5,5% من الموازنة الاسبانية، 5,4% من الموازنة التركية، 3,1% من الموازنة الإيرانية، 4,2% من الموازنة الأردنية، و1,9% من الموازنة السودانية، و2,2% من الموازنة الماليزية، و2,8% من الموازنة التونسية، فالفارق في مخصصات قطاعي الصحة والتعليم في الموازنة السورية للعام 2010 وما يقابلها في الدول الأخرى كبير لمصلحة مواطني هذه الدول وأمنهم الصحي ومستقبلهم التعليمي، رغم أن دولهم تتبنى اقتصاد السوق الحر، بينما نتبنى نحن «اقتصاد السوق الاجتماعي»!!
ومن جهة أخرى، فإن حصة الفرد السوري في مجال الصحة من الموازنة العامة هي 113 ل.س، وتبلغ حصة هذا الفرد 957 ل.س في مجال التعليم سنوياً، وهذه تعد أرقاماً صغيرة لا تعبر في الحقيقة عن اهتمام حقيقي من الحكومة في بناء مستقبل تعليمي حقيقي للأجيال السورية، أو الاهتمام بحاجاتها الصحية، وذلك إذا علمنا أن حصة الفرد في قطاع الصحة، وحسب الإحصائية السابقة تبلغ في كل من اسبانيا 1396 دولاراً، تركيا 179 دولاراً، إيران 85 دولاراً، الأردن 91 دولاراً، السودان 13,6 دولاراً، ماليزيا 107 دولاراً، تونس 77,7 دولاراً. أما إذا انتقلنا لتحديد حصة هذا الفرد في قطاع التعليم، فإننا نصل إلى أن حصة الفرد الاسباني تبلغ 1141 دولاراً، التركي 262 دولاراً، الايراني 132 دولاراً، الماليزي 391 دولاراً، التونسي 224 دولاراً.
وهنا لا بد من التذكير أن الأرقام السورية مأخوذة مقارنة بالموازنة العامة، بينما الأرقام في الدول الأخرى تم حسابها على أساس مقارنتها بالناتج المحلي الإجمالي الذي يعد بطبيعة الحال أعلى بكثير من حجم الموازنة العامة في هذه الدول، فإذا ما تم مقارنتها بالموازنة في الدول السابقة فإننا نصل إلى أرقام ونسب أكبر بكثير من الأرقام الحالية.
كما لم يرد في مشروع الموازنة العامة أي ذكر لموضوع زيادة الرواتب و الأجور للعاملين في القطاع العام، بما يشكله هذا من تهرب علني من تحسين الواقع المعاشي للمواطن السوري، حيث أن المواطن السوري لا يستطيع المطالبة بزيادة راتبه، لأن هذا غير منصوص ومقرر في موازنة 2010.
 وقد تجاهل واضعو الموازنة أن هذه الزيادات على قلتها ستساهم في رفع المستوى المعاشي لحوالي 1,5 مليون موظف في الدولة وحدها، فالرمد أحسن من العمى، وهذا يشكل استكمالاً وتكريساً للخط الذي عبر عنه رئيس الوزراء محمد ناجي عطري بالقول: « لا يوجد زيادة في الأفق المنظور»، وتابعه وزير المالية محمد الحسين بقوله: « لا يوجد زيادة قادمة لأن الزيادة ستحصل عندما تتوفر الموارد والتوقيت والظروف المناسبة».  
ويستهدف مشروع موازنة العام 2010، المقدم لمجلس الشعب تأمين 60752 فرصة عمل حكومية في القطاع الإداري والاقتصادي،  وهذا لا يشكل بأحسن الأحوال سوى 20% من حجم قوة العمل السورية الداخلة إلى سوق العمل والمقدرة بـ 250 – 300 ألف سنوياً، إذا ما تم تحقيق هذه النسبة وتم تأمين فرص العمل المعلنة في الموازنة أساساً، كما أنه لا بد من السؤال: ما هو مصير الـ80 % الباقين من الداخلين الجدد إلى سوق العمل؟! إذا ما قلنا إن هناك أساسا بطالة تراكمية وصلت إلى أكثر من 12%، وذلك في ظل عجز القطاع الخاص في المقابل عن تأمين فرص عمل ثابتة ومستقرة لهؤلاء الداخلين الجدد!!
كما يلاحظ تركيز مشروع موازنة العام 2010 على مشاركة القطاع الخاص في مشاريع البنى التحتية، فهذا التركيز يأتي بداية بعد إطلاق الحكومة السورية إستراتيجية وطنية للشراكة بين القطاع العام والخاص، في محاولة منها لتأمين الموارد المالية لمشاريع استثمارية كبرى في قطاع البنى التحتية كقطاع الكهرباء والطرق والصرف الصحي، في الوقت الذي تؤكد فيه الوقائع، أنه ورغم التسهيلات الكبيرة التي تقدمها الحكومة السورية للقطاع الخاص، لا يزال هذا القطاع غير مجد فعلياً في عملية التنمية الحقيقية في سورية، وذلك لاقتصار أعماله على المشاريع الخدمية والسياحية والعقارية وغيرها من المشاريع ذات الربح السريع.
إن مشروع الموازنة للعام 2010 يؤكد بشكل جلي تراجع الحكومة عن دورها الاجتماعي، والذي بات سياسة تنتهجها الحكومة في معظم قراراتها، فلم يعد المواطن وحاجاته في سلم اهتماماتها، وكذلك الاقتصاد الوطني... فما الذي يشغل بال واضعي موازنتنا العتيدة؟!!

آخر تعديل على الثلاثاء, 12 تموز/يوليو 2016 14:51