القطاعات الكبرى.. من يمسك مفاتيح الإعمار؟!
الدول بعد الحروب إما فشلت، أو نهضت.. محددات كثيرة تدخل في النجاح أهمها المرحلة الحساسة التي تعقب الحرب، والمسماة بمرحلة إعادة الإعمار، ومحددات أوسع سياسية واقتصادية تحدد وجهة هذه المرحلة، ولكن هناك بعض المفاتيح الحاسمة، من يمتلكها يفتح الأبواب ويتقدم، والتنافس عليها سيكون بين من يريد النهوض العام ومن يغنم من الفشل..
أهم المفاتيح هو مصير القطاعات الكبرى، ولتحديد هذه القطاعات، يمكن القول بأنها التي تحدد النقلات النوعية في النمو والتنمية..
فمثلاً حجم وطريقة إنتاج الطاقة وأسعارها، أي النفط، والكهرباء بالدرجة الأولى. ثم شبكة الوصل بين المناطق ومع العالم، أي النقل بما يتضمنه من قطاع طيران ومطارات، وأسطول نقل بحري ومرافئ، وسكك حديدية، وطرق نقل بري. وصولاً إلى قطاع الاتصالات على اعتباره محدداً في عملية التنمية، وضرورة إنتاجية واجتماعية حاسمة، كما تأتي شبكة المياه، وإدارة الموارد المائية إلى جانب ما سبق لتشكل مجموعة من القطاعات المفتاحية، ويضاف إليها المنظومة المصرفية والمالية، التي تتراكم فيها الموارد والمدخرات..
إما رافعة.. أو معطّلة
إن تدهور واحد من هذه القطاعات، يؤدي إلى كلف اقتصادية واجتماعية عالية، على أوجه عملية النشاط الاقتصادي والاجتماعي كلها، والتدهور هنا متعدد الأوجه، يبدأ من أن توقف أحد هذه القطاعات، يشكل عملية قطع في الخدمات الاقتصادية والاجتماعية الضرورية، وبالتالي فإن سوء خدماته وتخلفها، أو ارتفاع أسعارها، أو ارتهانها لمصالح ضيقة، يشكل نقطة ضعف عامة. والعكس بالعكس فتطور خدماته وتوسعها ومواكبتها للتطورات التكنولوجية، والبيئية، وتطور الحاجات الاجتماعية، وتخفيض أسعارها، وتسييرها وفق المصلحة العامة، هو رافعة اقتصادية واجتماعية للبلاد.
بلا ربح.. هل يرضى المستثمرون؟!
فما الذي يعنيه أن تُفتح هذه القطاعات للتشاركية مع المستثمرين، في بلاد أنهكتها الحرب كسورية؟! إن الظرف السوري الحالي، الذي تراجعت فيه مختلف المؤشرات التنموية إلى مستويات ما قبل السبعينيات، يقول بأن القطاعات الكبرى يجب أن تحقق نقلات نوعية، وبسرعة..
فماذا سيقول المستثمرون في مواجهة الضرورات، التي قد تقتضي أن تذهب كل عوائد هذه القطاعات لعمليات تأهيلها، وتطويرها، ثم تأمينها للجميع؟! أي التي قد تقتضي ألّا ينجم ربح، بل يعاد استثمار كل الربح؟! بالطبع سيرفضون.. وستكون عملية الاستثمار الخاص في هذه القطاعات بأفضل الأحوال معيقة لعمليات التطوير السريع المطلوبة..
سيتوجه المستثمرون في سورية كباقي الدول الخارجة من الحرب، إلى هذه القطاعات تحديداً، فهي مضمونة الاستهلاك، وهي ذات عوائد كبرى، كما أنهم يحصلون على حصة فيها، بكلف بخسة وسط، تراجع قيمة الليرة السورية، وسعي الحكومة الدؤوب للمشاركة، بذريعة نقص الموارد.. وهذا صحيح.
عقل عملي.. وهدف واضح
بالفعل الموارد قد لا تكفي لإعادة تأهيل هذه المنظومة الضرورية دفعة واحدة، ولكن هذا لا يعني أن يتم تسليم مفاتيح الموارد للمستثمرين؟!
بل يجب أن يعني خطة عملية لتسخير موارد إعادة الإعمار، من التعويضات، ومن استعادة الأموال المنهوبة والثروات المتراكمة، وحتى من وجهات التمويل الأخرى، كالمساعدات والقروض. بالشكل الذي يحقق انطلاقة هذه القطاعات، وبداية تحصيل العوائد منها، لتخدم ذاتها، وتخدم القطاعات الأخرى التي لا تقل أهمية، كالزراعة والصناعة، والسكن، والتعليم والصحة وغيرها..
إن التناقض بين كون هذه القطاعات هي رافعة من حيث العوائد والموارد، وهي الأكثر طلباً للموارد لتأهيلها، ينبغي حله بطرق عملية، كأن نستعيد تشغيل القطاعات الأسرع إدراراً للإيرادات مثل النفط..
ولكن الهدف وراء كل الطرق العملية الممكنة، يجب أن يكون بقاء هذه القطاعات مرهونة للمصلحة العامة، أي مدارة من قبل جهاز الدولة.
ولا يوجد حلول أخرى، فدخول المستثمرين ليتملكوا حصصاً من هذه القطاعات، يلغي أي احتمال لتسخيرها للمصلحة العامة، كتخفيض أسعارها، أو استخدام كل أرباحها للتوسع والتوظيف في تحريك قطاعات أخرى! كما أنه بالمعنى السياسي، يعني تسليم أفراد ورؤوس أموال وشركات، عصب النشاط الاقتصادي والخدمي، وبالتالي امتلاكهم ناصية القرار الاقتصادي والسياسي.
دولة للمصلحة العامة.. لا الخاصة
ولهذا تطرح التشاركية اليوم وترخص شركات الاتصالات عوضاً عن استعادتها وفق العقود، لأن القلة القليلة من الناهبين تدفع باتجاه، تسليم المفاتيح لرؤوس الأموال، وما إضعاف دور الدولة، وقوة عملتها إلا جزء لا يتجزأ من هذه المصلحة. هؤلاء يجهزون لتسليم عصب الاقتصاد الوطني لرؤوس الأموال الخاصة، أي أنهم يدعون للمحاصصة على مفاتيح قوة الدولة واستمراريتها.
فجهاز الدولة اليوم بتشريعاته وقراراته ونشاطه الاقتصادي، مرهون وفق ميزان القوى، الذي يميل بقوة لمصلحة الأرباح ورؤوس الأموال. إلا أنه في ظروف سياسية قادمة يجب أن يستعاد ليكون في خدمة السوريين عموماً، الأمر الذي لا يمكن أن يتم إلا بنشاط سياسي عال لحماية عملية إعادة الإعمار من التحول إلى واحة للناهبين ومقبرة للبلاد!..