نقابات العمال في مجال الشؤون الاقتصادية رؤية صحيحة تفتقر للأدوات والجرأة

يأتي تقرير نقابات العمال في الشؤون الاقتصادية ملامساً للحقائق الأساسية، و «ملامساً» تفيد بالقرب من الموضوعية، ولكن القرب فقط في هذه اللحظة غير كاف حيث لا تزال نقابات العمال ببنيتها الحالية تبتعد عن الهجوم وترضى بسقوف منخفضة لنشاطها، ونتكلم هنا بما يخص دور النقابات في عملية البحث والتشخيص للواقع الاقتصادي السوري، لأن الابتعاد عن الدقة واللجوء للتعميم يبقي اقتراحات النقابات في إطار الاقتراحات العامة التي تأخذ طابع التمني، مهما عكست في عمومياتها المسائل الجوهرية.

ينطلق التقرير من رؤية عامة صحيحة تقول بأن : « واقع المرحلة الحالية الاقتصادي والاجتماعي هو نتاج مجموعة من العوامل المتشابكة»، مركزاً على مرحلتين أو جانبين أولهما هو المرحلة السابقة سياساتها ومؤشراتها المتردية أما ثانيهما فهو الأزمة والأثر والمنعكسات الاقتصادية، منهج التقرير الذي ينطلق من المرحلة السابقة وقراءة مؤشراتها ويصل إلى واقع هذه المؤشرات اليوم بعد التأزم الاقتصادي الناتج عن الأزمة الوطنية في سورية، يعكس فهم دقيق لمستوى الترابط بين أزمات الأمس الاقتصادية الاجتماعية التي كانت تتراكم ببطء وبين الواقع الحالي الانفجاري... وبتوصيفه للمرحلة السابقة يذكر : « المغالاة الليبرالية غير الواقعية بالاعتقاد بحتمية الاندماج (المتسرع والمنفعل) بالاقتصاد العالمي كانت على حساب تحييد الدور الاقتصادي والإنتاجي للدولة والذي أفرز تراجعاً في الدور الاقتصادي والاجتماعي للقطاع العام وفشلاً في جميع محاولات إصلاحه ( بل تعمداً في عدم الإصلاح).»

للأسف هذا التوصيف الدقيق لا تدعمه المؤشرات المدروسة بالأرقام والمعطيات والأهم بالبدائل مما يعيد التقرير خطوة إلى الوراء.

 

مؤشرات أساسية

معدل نمو الناتج الإجمالي كمؤشر أول، ذكر التقرير أن معدلات النمو غير كافية ولا بد من تعبئة الطاقات لرفعها، بينما اكتفى بذكر تقديرات بعض الاقتصاديين بأن معدل نمو %8 ممكن وضروري في سورية.

أما في ضعف الطلب الفعال وضيق السوق الداخلية كمؤشر، ذكر التقرير انخفاض القدرة الشرائية للمواطنين الناتج عن عدم عدالة التوزيع بالإضافة إلى التضخم الذي يؤدي إلى مزيد من ضعف الطلب والناتج عن ارتفاع الأسعار مع ذكر أن احتكار القلة في سورية هو السبب غير الموضوعي للارتفاع، وهي ظاهرة عمرها عقود ويحدد التقرير احتكار أهم المستوردات من السلع الضرورية والغذائية والعلفية ومواد ومستلزمات البناء.

المؤشر الثالث وضع التجارة الخارجية والميزان التجاري، يشير التقرير إلى مستوى العجز المزمن في الميزان التجاري الذي وصل إلى 226 مليار عام 2009 وذلك خلال خمس إلى ست سنوات، مؤكداً بأن السبب يعود إلى التحرير المتعجل غير المنضبط للتجارتين الداخلية والخارجية والذي أدى إلى زيادة الاستيراد الترفي وألحق الضرر بالأنشطة الإنتاجية الوطنية. حيث سمح خلال عام تقريبا (-2007 2008) باستيراد ما يزيد على 20 ألف نوع من السلع التي كانت خاضعة لقيود استيراد. وينوه التقرير هنا إلى مسألة طابع العلاقات الاقتصادية الدولية للاقتصاد السوري حيث تركزت شراكاته التجارية الأساسية مع الدول المقاطعة اليوم وأهمها الاتحاد الأوروبي ودول الخليج العربي.

أما حول القطاع العام الصناعي فيرى التقرير أن القطاع العام أثبت أهميته لسورية في ظرف الأزمة الذي تمر به، وأكد على الحاجة الملحة إلى قطاع عام قوي ومتماسك وقادر على مواجهة الأعباء الاجتماعية.أما عن مشاكله فيعتبر التقرير أنها مشاكل متراكمة على مر العقود ولم تقدم الحكومة دراسة شاملة معمقة أو تقييماً موضوعياً عن واقع القطاع العام الصناعي معتبراً أن الإهمال كان مقصوداً خلال العقد الأخير حيث رفضت الجهات الوصائية سياسات التجديد والاستبدال وأدخلت معظم شركات القطاع العام قسراً في نفق الخسارة أو التعثر. عدا عن توقف بعضها عن العمل والبالغ عددها 14 شركة مضافا إليها الشركة  العامة للإطارات وبعضها مهدد بالإغلاق مثل الشركة العامة للزجاج.

يذكر التقرير مسببات متعددة لوضع القطاع العام الصناعي منها « ضعف وفساد بعض مفاصل الإدارات، بالإضافة إلى القيود التشريعية والقانونية والرقابية التي تقيد العمل الإداري والمالي والإنتاجي والتسويقي والاستثمار، بالإضافة إلى عدم توفير جهات حكومية التمويل اللازم لتجديد الأصول وإجراء الصيانة وتغطية التكاليف الإنتاجية والتشغيلية.»

يضيف التقرير مؤشرات أخرى منها التضخم الكبير وارتفاع الرقم القياسي للأسعار خلال الأعوام السابقة ويذكر بأن المساهمة الأكبر في رفع رقم التضخم كانت لأسعار الأغذية والمشروبات غير الكحولية ودفعت ثمن ذلك مكونات من الفئات الوسطى والفقيرة والضعيفة. وإن الرفع النسبي للدعم ورفع سعر الطاقة والمشتقات النفطية لم يقضم القدرة الشرائية للنقود وحسب بل أدى إلى إعادة توزيع الدخل لمصلحة الأغنياء والأقوياء.

 

التعميم يفقد المقترحات مضمونها

يلاحظ من المؤشرات العديدة السابقة أنها اقتربت من مواضع الخلل الأساسية إلا أنها افتقرت إلى جانبين أولهما التوصيف الدقيق والعلمي للطروحات والمؤشرات المذكورة، وتحديداً فيما يخص القطاع العام الصناعي حيث للنقابات وعمالها المصلحة الأولى والاحتكاك الاكبر مع هذا القطاع الهام.

أما الجانب الثاني فهو الابتعاد عن مناقشة السياسات الاقتصادية في ظل الأزمة، إن مستوى التحديد والموضوعية الذي تكلمت فيه النقابات عن المرحلة السابقة لم ينسحب على تقييمها لسياسات اليوم، ولم يبحث التقرير في مرحلة ما بعد الأزمة السياسية والإجراءات التي لاتزال تساهم بتصعيد خطورة الوضع الاقتصادي الحالي، ولم يحدد المواضع التي استمرت فيها السياسات الليبرالية السابقة التي انتقدها بشدة سابقاً.

وبناء على افتقار التقرير إلى الدقة والرقم من جهة، وإلى جرأة الطرح بما يخص المرحلة الحالية من جهة أخرى، أتت الاقتراحات النهائية معممة وفاقدة لكثير من مضمونها.

الوقائع تقول بأن امتلاك النقابات للرقم والخطة الاقتصادية البديلة لن يؤدي حتمياً إلى تغييرات كبرى في السياسات الاقتصادية أو لن يلاقي بالضرورة الاستجابة المطلوبة، إلا أنه وكما يقال «أضعف الإيمان»، أن تمتلك النقابات القدرة على  الخطوة الأولى وامتلاك أساسيات الانتقاد الموضوعي للسياسات الاقتصادية الحالية والسابقة، للتوجه نحو المشاركة في وضع البرنامج والخطة البديلة.