«جردة حساب» المئة يوم من عمر الحكومة تكشف استمرار الأزمات!

الحكومات في الظروف الطبيعية تحاسب على نتائج أعمالها بعد انقضاء مئة يوم من عمر هذه الحكومات، وهاهي مئة يوم تنقضي منذ  14 تموز من عام 2012 عندما بدأ مجلس الشعب السوري مناقشة البيان الوزاري، وأصبح من حق السوريين محاسبة الحكومة بسؤالها عما حققته خلال هذه المدة؟! عبر المقارنة البسيطة بين ما وعدت به في بيانها الوزاري عند تشكيلها، وبين ما استطاعت تحقيقه على أرض الواقع فعلياً، والحديث يدور عن الجانب الاقتصادي – الاجتماعي بطبيعة الحال، يتضح أن الفجوة كبيرة، ولكن لا يجب أن يتم تغافل الواقع الموضوعي الصعب الذي تعمل به هذه الحكومة والذي يجعل تأثير القرار الاقتصادي مكبلاً بترابط كبير مع القرار السياسي والأمني العسكري ومكبلاً أيضاً بالجبهات المفتوحة التي تعلنها قوى الفساد على عملية التهدئة وتدارك التصعيد الاقتصادي الاجتماعي الخطير.

 «البيان» بخطوطه العامة

وضع البيان الحكومي جملة من الأهداف الاستراتيجية والآنية نصب عينيه، عبر تأكيده على التوجه شرقاً لمعالجة التحديات، ومعالجة الفساد والشبكات التي تنظمه لما يسببه من فاقد اقتصادي كبير، والتزام باستمرار دعم المواد الأساسية وحوامل الطاقة، وتوفير الأمن الاقتصادي بما يعنيه من محاربة الفقر والبطالة، على أن تكون المعالجة الفورية المباشرة للأزمة التي تنعكس سلباً على حياة المواطن والحد من هذه الآثار خلال الأسابيع القليلة القادمة في أولويات العمل الحكومي، كتأمين الغاز والمازوت من حيث الانتاج والاستيراد والتصدير والتوزيع، وضمان وصول المادة بالسعر المقرر، وتشديد العقوبات بحق المخالفين وضبط الأسواق من خلال التدخل الحكومي، والرقابة، ووضع الآليات لمنع الاحتكار، والحفاظ على القوة الشرائية، وحماية المستهلك من خلال تأمين السلع بالسعر الطبيعي والنوعية المقبولة، بالإضافة إلى تفعيل دور السياسة الضريبية في إعادة توزيع الدخل والثروة لمصلحة الطبقة الوسطى والفقيرة، ووضعت أهداف لكل وزارة بعينها، كتأمين احتياجات المواطنين من المشتقات النفطية في مجال النفط والثروة المعدنية، والحد من تقنين الكهرباء، وتطوير البيئة التشريعية لنظم الحماية الاجتماعية والعمل على زيادة الانتفاع من الطاقات المتاحة للبنى التحتية للنقل باستكمال المشاريع الاولوية، وتعزيز البعد الاجتماعي لقضية السكن من خلال معالجة اختلالات التنمية المكانية، وغيرها الكثير من المهام التي تضمنها البيان، ولكن ما الذي تمكنت الحكومة من تحقيقه فعلياً؟!

 

«جردة حساب»

إذا ما كانت المهام التي تتطلب زمناً لحصولها لا تدخل في «جردة حساب» المئة يوم الأولى من عمر البيان الحكومي والحكومة الحالية، فإن المهام المستعجلة، هي من أولويات الأيام المئة الأولى بمطلق الأحوال، فالتحول شرقاً، كان يتطلب قراراً فقط، وفعلاً اتخذ القرار، وتم التوصل مطلع شهر أب الماضي من عام 2012 إلى اتفاق لتصدير النفط الخام السوري إلى روسيا مقابل تصدير المنتجات النفطية المكررة (البنزين والديزل) من روسيا، كما جرى فتح خطوط التحويل المصرفية، وهاتان العقبتان تعتبران مرتكزات العقوبات الخارجية، واللتان كانتا تنهكان الاقتصاد الوطني، ولكن المفارقة التي لم يفهمها السوريون اليوم، هي عجز تذليلهما كعقبتين رئيسيتين عن إحداث اختراق حقيقي في مجال تأمين حاجة السوريين من المشتقات النفطية، وهي المهمة التي وضعت ضمن القضايا المستعجلة،كما لم يستطع هذا التحول تحسين معيشة السوريين ولو بنسب ضئيلة، فهل هذان الخياران كانا عقبتين نظريتين فقط؟! أم أن هناك عقبات داخلية أكثر أهمية؟! وهي القادرة على إفقاد أية خطوة ايجابية مطلوبة في هذا الاتجاه بريقها وفاعليتها، وهو ما نرى نتائجه حالياً!..

 

المنطق الطبيعي

لا يختلف المتابعون للشأن الاقتصادي على أن التحول شرقاً كان ضرورة، وخاصة بعد العقوبات الأوروبية على سورية، لأن البلاد تستورد %40 من استهلاك المازوت الاجمالي، ونحو %50 من الغاز، و%27 من استهلاك الفيول، وما يقارب %30 من استهلاك البنزين، وهذا ما أمنه البديل الروسي بشكل أساسي عبر شراء النفط السوري الخام وتصدير أغلب تلك المشتقات، وكذلك سهّل فتح الخطوط المصرفية عملية الاستيراد، بما سيساهم في تأمين حاجة البلاد من المواد الاساسية المستوردة، ليبقى أمام الحكومة مشكلة خطوط النقل داخل المحافظات، والتي يمكن القول إنها ليست وليدة تشكيل الحكومة الحالية، بل إنها تعود إلى عام بكامله تقريباً، حيث تقطعت فيه أوصال البلاد، وبات من الصعوبة إيصال المواد الزراعية من محافظة لأخرى، أو توزيع المشتقات النفطية على السوريين بشكل طبيعي في مختلف المحافظات، لوجود وضع أمني يعيق هذه الحركة بشكل شبه طبيعي..

القضايا المستعجلة

حددت الحكومة جملة من القضايا المستعجلة اشتملت على النقاط التي أظهر جهاز الدولة فيها ضعفاً شديداً في هذه المرحلة وقبلها وهي:

الغاز والنفط والمازوت، أسعار المواد الغذائية، القوة الشرائية لليرة وحمايتها، النقل، الاستملاك، إعادة تأهيل البنى التحتية والمنشآت العامة المخربة وإعادة المهجرين إلى أماكن استقرارهم الاجتماعي، التشغيل، حماية المستهلك.المنطق يقول إن الحكومة غير قادرة على معالجة  أزمات بهذا الحجم خلال مئة يوم، والتقييم يكون على أساس السعي باتجاهها، ومستوى التقدم، ففيما يخص تأمين المشتقات النفطية للمواطنين بالأسعار المناسبة حققت الحكومة خطوات باتجاه تأمين منافذ وأعلنت عن كفاية المشتقات أي ذللت الصعوبات المتعلقة بوضع الأزمة، إلا أن ما عجزت الحكومة عن مواجهته هو مصالح «مافيات التهريب» التي لا تزال المستهلك الأول للمشتقات النفطية، أما في مجال أسعار المواد الغذائية فالواضح تماماً بأن أدوات الحكومة بالرقابة أو التدخل بمستواها الحالي باءت بالفشل أيضاً في مواجهة احتكارات السوق الداخلية، ولكن مشروعات حكومية تتجه نحو زيادة حصتها من توزيع المواد الغذائية بشكل سلات غذائية مدعومة، لا تزال تواجه إعاقات من قوى السوق المستفيدة من ارتفاع الأسعار ومن أزلامها الحكوميين..مع العلم أن تطبيق مشروع تدخلي كبير الحجم في هذه المرحلة الحرجة، كفيل برفع القدرة الشرائية للمواطنين وحماية الليرة السورية، وتخفيض أسعار المواد الغذائية أي حل ثلاثة من القضايا المستعجلة المذكورة.

إذاً يتضح أن خطوات سريعة خطتها الحكومة لتذليل عقبات متعلقة بالعقوبات أو بتذليل العوامل الخارجية إذا صحت التسمية، ولكن بالمقابل عجزت حتى الآن عن إيصال النتائج الملموسة إلى المواطنين، وذلك لا يعكس تناقضاً في عمل الحكومة، وإنما يعكس صراعاً بين قوى تدفع نحو الأمام، وقوى تعيق دفاعاً عن مصالحها. وحتى الآن فإن الظرف الأمني والاقتصادي المتردي يساعد في رجحان كفة قوى الفساد ويمنع السير نحو الأمام.

عجزت الحكومة الحالية حتى الآن ليس عن تحقيق ما هو استراتيجي في بيانها، كتطبيق إجراءات حاسمة في مجال مكافحة الفاسدين ومحاسبتهم، أو إعادة توزيع الناتج المحلي بما يخدم الشريحة الفقيرة من المجتمع، بل عن تأمين ما هو فوري وعاجل، عبر  تنفيذها الخطة الإسعافية المطلوبة لإنقاذ الاقتصاد والمواطن السوري على حدٍ سواء، فالفساد هو وحده القاسم المشترك بين استمرار أزمة تأمين الغاز والمازوت والبنزين، الذي يتوفر وبكثرة على طول اتوتستراد دمشق – طرطوس، وفي السوق السوداء، وبأسعار مضاعفة، بينما لا تجد في محطات الوقود ما يؤمن حاجة السوريين رغم توفر الكمية نظرياً عبر الاستيراد والإنتاج المحلي، وبين استمرار الصعوبات أمام مشروع البطاقة الذكية الذي رفضته قوى الفساد، لأنه سيوقف تدفق الاموال المنهوبة في حسابات ثرواتها غير المشروعة، فالفاعلية والقدرة على تأمين حاجات السوريين لا ترتبط بجدية الحكومة في معالجة القضايا الجاثمة أمامها فقط، ولا بقدرتها على تأمين البدائل، بل بالقدرة على تحقيق اختراق جدي في آليات وطبيعة صانعي القرار الاقتصادي الفعليين، على أن لا تكون قوى الفساد الكبير هي المنتج الحقيقي لهذه القرارات بغض النظر عن الـمُصدر الظاهري لها، فهذه ليست بصك براءة للحكومة في كل الأحوال، والتي تتحمل نصيبها من المسؤولية عن الفشل في تأمين حاجة الناس، وما وعدت به في بيانها، والذي ضرب مصداقيتها، وعليها إما أن تفي بوعودها، وهو ما تعجز عن تحقيقه في ظل الظروف الحالية بفعل الماهية التي يصنع فيها القرار الاقتصادي، أو إعلان عجزها صراحة أمام السوريين، والإشارة إلى الأسباب الحقيقية لهذا العجز، بدلاً من تعداد ما هو ظاهري من المعيقات التي تحمل نسبة من الفشل في مطلق الأحوال.