رئيسة صندوق النقد الدولي: زخم النمو العالمي ينخفض.. والتعافي (هش)!

رئيسة صندوق النقد الدولي: زخم النمو العالمي ينخفض.. والتعافي (هش)!

ألقت كريستيان لاغارد رئيسة صندوق النقد الدولي خطاباً أمام أكاديميي جامعة غوته الألمانية في مدينة فرانكفورت إحدى أهم المراكز المالية العالمية، بتاريخ 5-4-2016 كان عنوانها (إجراءات حاسمة لتأمين النمو) رصد اللحظة الراهنة ووضع أهم سياسات الخروج بوجهة نظر الصندوق.

 

بدأت رئيسة الصندوق حديثها بمحاولة تخفيف وقع اللحظة الراهنة مشيرة إلى أنها تعطي إشارة (لتوخي اليقظة، وليس إنذاراً بالخطر). 

يمكن من خلال إجراء قراءة أولية للخطاب الأخير لرئيسة الصندوق أن نوضح حجم الانحياز للمراكز الكبرى الغربية، في تصنيف المخاطر، وفي توصيف الحلول والسياسات، التي تضيف إلى سجل الانتقادات الكثيرة لدور هذه المؤسسة الاقتصادية الدولية راعية النيوليبرالية العالمية..

(الغرب بخير).. 

لولا مشاكل الأسواق الصاعدة!

 

أكدت رئيسة الصندوق بأن (زخم النمو ينخفض، والتعافي الاقتصادي لا يزال بطيئاً جداً، وهشاً للغاية، والمخاطر التي تهدد استمراره في تزايد)، إلا أنها ترى بأن المخاطر تأتي بالدرجة الأولى من أسواق الدول النامية والصاعدة، مشيرة إلى أن التداعيات تزداد من الاقتصاديات الصاعدة حيث: (تباطؤ النشاط الاقتصادي في الصين، وانخفاض أسعار السلع الأولية، واحتمالات التضييق المالي في العديد من البلدان) هي أهم المخاطر خلال الأشهر الست الماضية وفق لاغارد.

أما مخاطر ومشاكل الدول المتقدمة، فاعتبرتها رئيسة الصندوق مجرد ظواهر مرتبطة بمخلفات الأزمة المالية الكبيرة في عام 2008 لتوصف مشاكل الدول المتقدمة (بالتركة التي خلفتها الأزمات منذ فترة طويلة، مثل ارتفاع المديونية، وانخفاض الاستثمارات، وانخفاض الإنتاجية، وبالنسبة للبعض ارتفاع البطالة، وفي بعض البلدان اختلال الميزانيات العمومية في البنوك، وفي المؤسسات المالية غير المصرفية، والضغوط بسبب القروض المتعثرة وانخفاض هوامش الربح التشغيلية)، لتعتبر أن جملة هذه العوامل التي تنعكس في الانخفاض الشديد للنمو في الدول المتقدمة هو نتيجة طبيعية (سيستمر من تلقاء نفسه، تحت وقع الآثار السلبية)، محذرة في الوقت نفسه من (العواقب على النسيج الاجتماعي والسياسي في كثير من البلدان، وحتى في ألمانيا).

إن التخفيف من معالم الأزمة على الدول المتقدمة، أمر مقصود، ويمكن القول بأنه تضليلي، الغاية منه هو الترويج للسياسات المتبعة هناك والمنسجمة تماماً مع سياسة صندوق النقد الدولي النيوليبرالية.

مدح النيوليبرالية 

وذم (الانعتاق)

 

اعتبرت لاغارد أن (المزاج الاقتصادي يتحسن مدفوعاً بزيادة التيسير من البنك المركزي الأوروبي، وحدوث تحول واضح في استراتيجية البنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، نحو تخفيضوتيرة الزيادة في أسعار الفائدة ...).

وهذا يعكس الاتجاه الأحادي الجانب لسياسات الصندوق، التي تدعو إلى اتباع سياسات الضخ الأموال للمصارف، وهنا تحديداً عبر الأسواق المالية، عبر اعتماد البنوك المركزية العالمية لضخ السيولة، وتسهيلات الإقراض وصولاً إلى تصفير الفائدة، كوسيلة وحيدة لتحفيز النمو، لم تنجح سوى بتوسيع نشاط الأسواق المالية، ولم تؤثر على النمو الحقيقي في قطاعات الإنتاج، وبالتالي لم تحل مشكلات البطالة،  وقد أشارت لاغارد إلى (خطر المستويات المرتفعة من القروض المتعثرة) أي أن عمليات التوسع المذكورة كونها لا تحقق إنتاجاً يتيح إعادة تسديد القروض، وهذه السياسة هي واحدة من أهم أسباب مشكلة (الاختلال الكبير في الميزانيات العمومية للدول) التي يعتبرها الصندوق واحدة من المشاكل الكبرى.

مقابل هذا التبني الكامل، للسياسات النيوليبرالية القديمة القائمة على التوسع المالي، وضخ الأموال للمصارف، فإن الصندوق يهاجم السياسات البديلة التي تقوم بها دول أخرى، في محاولتها للانعتاق النسبي والهادئ من الأزمات التي تعصف بالغرب، لتنتقد لاغارد بنعومة السياسات الصينية التي تعمل على رسم نموذج اقتصادي جديد لها قائم على توسيع الاستهلاك المحلي، وتقليص الاعتماد شبه المطلق على التصدير سابقاً، والتخفيض المدروس للنمو الاقتصادي، وإن ظل ذلك النموذج مطرح تساؤل من حيث مآلاته اللاحقة، وتقول بأن (اتجاه الصين نحو نموذج اقتصادي أكثر قدرة على الاستمرار يعني انخفاض نموها وإن ظل قوياً)، ويأتي تصريحها هذا في سياق تعدادها للمخاطر التي تحيط بآفاق الاقتصاد العالمي.

(العرض القديم الجديد):

حرية السوق المطلقة!

 

تلخص رئيسة صندوق النقد الدولي، رؤيتها للحلول والسياسات المتبعة، وتعترف بنفسها بأنه (قد يرى البعض فيها أسلوباً قديماً)، حيث تعود إلى وصفات صندوق النقد الدولي المتبعة من أواسط القرن الماضي، والمعممة منذ الثمانينيات، والمتمثلة في «الإصلاح الهيكلي» وهو ما تعتبره لاغاراد واحداً من ثلاثة إجراءات حاسمة إلى جانب (إلغاء القيود على أسواق السلع والخدمات وإصلاح أسواق العمل)، مؤكدة بأنه (على الجميع أن يتعاون ويتبعها).

أما الركيزة الثانية في سياسات الصندوق هي السياسة المالية، حيث يحاول الصندوق أن يتماشى قليلاً مع المتغيرات العالمية، التي تؤكد الحاجة إلى توسيع الإنفاق الاستثماري العام، لتعترف بأن (مستثمري القطاع العام الأكثر كفاءة يتمكنون من زيادة النفع المتحقق على مستوى النمو من نفقاتهم الاستثمارية، ضعف ما يحققه المستثمرون الآخرون الأقل كفاءة). ولكنها في سياق عرض الأمثلة تنتقي ما يحصر وجهات الإنفاق في اتجاهين: الأول هو إنفاق اجتماعي جزئي، كما في اليابان التي تستشهد لاغارد  باستثمارها في (رعاية الطفل، وإنفاق للمساعدة على زيادة دخول المرأة إلى قوة العمل)، أو مساعدات في ألمانيا لتخفيف الأعباء الضريبية على العمالة، والاتجاه الثاني للإنفاق العام هو (الاستثمار في البنية التحتية الضرورية والابتكارات)، وفي جانبي الإنفاق المذكورين، الاجتماعي الضيق، والاستثماري العام الواسع، هناك ابتعاد مقصود عن فكرة الاستثمار العام في القطاعات الإنتاجية الحقيقية التي توسع النمو الاقتصادي، مثل الزراعة والصناعة وغيرها، ويدل على ذلك إشادة صندوق النقد الدولي ودعوته الدول الصاعدة إلى (خفض دعم الطاقة المكلف الذي تقدر تكلفته المباشرة وغير المباشرة بحوالي 5,3 تريليون دولار على مستوى العالم). رغم أن هذا الدعم يشكل واحدة من دعائم تخفيض التكاليف الصناعية والزراعية في الدول الصاعدة من جهة، وجزء هام منه يعود لاستثمارات دول مثل الصين والهند في التحول نحو الطاقات النظيفة!.

دعوة لاغارد الدول إلى (إعادة إدارة النفقات والإيرادات) وتوسيع الإنفاق العام بشكل محدد، استثنت الدول ذات المديونية العالية، واقتصرت خطتها لتلك الدول على التقشف في الإنفاق الحكومي لتسديد الديون.

أما الركيزة الثالثة هي السياسة النقدية، وهي التي اقتصرت وفق رئيسة الصندوق على الإشادة بسياسة التيسير الكمي المذكورة سابقاً.

(التعاون الدولي)..  في وجه (الانغلاق)!

 

 

لا جديد لدى صندوق النقد الدولي، في مواجهة أزمة تشل حركة الاقتصاد الرأسمالي مستمرة منذ عام 2008 وحتى اليوم، فلم يجد الصندوق سبيلاً إلا تخفيف وقع الأزمة، والإشادة بإنجازات الدول المتقدمة، وانتقاد ميل الدول الصاعدة إلى السياسات البديلة. حيث يدعو الجميع إلى سياسات نيوليبرالية يدرك أنها أصبحت وراء ظهر قوى العالم الاقتصادية التي لديها إمكانيات نمو، لينتقد اتجاهها نحو الانعزال النسبي عن (شبكة الأمان المالي العالمية التي تقتضيها العولمة) تلك التي يدعو إليها الصندوق مغلفاً دعوته (بالتعاون الدولي)..

تقود كريستيان لاغارد منظمة اقتصادية دولية ولدت في لحظة الخروج الظافر للولايات المتحدة الأمريكية عقب الحرب العالمية الثانية، وخطابها القديم وغير المواكب، بل والممانع للتغييرات الكبرى في القوى الاقتصادية والسياسية العالمية،  يعكس أفول كل مرتكزات تلك اللحظة السياسية وولادة عالم آخر، سيرمي خلفه حتى أعتى مؤسسات الهيمنة العالمية إذا لم تجد طريقها للتكيف مع متغيرات اليوم،  رؤية وخطاباً وممارسة..